Arabic Statement, Long Version
صرخة وطنية ونداء من الاعماق
يطلقها لفيف من شخصيات وكوادر الحركة الوطنية الفلسطينية الراهنة
لإقامة دولة فلسطين الديمقراطية التقدمية على كامل التراب الوطني
الطبعة الثانية
شباط 2016
مقدمة:
لما كانت صياغة هذه الوثيقة قد انجزت وتم إصدارها في طبعتها الأولى قبل ثماني سنوات على وجه التقريب تحت تأثير عوامل متعددة ، منها ما هو داخلي كالحصار والإغلاقات والقتل والاعتقال وهدم البيوت وتشريد سكانها ومصادرة المزيد من الأراضي ، واقتلاع الأشجار حيناً وإحراقها حيناً آخر من قبل عصابات المستوطنين وأجهزة كيانهم الاستعماري الاستيطاني الإحلالي اتجاه شعبنا الفلسطيني ، وما رافق ذلك من زيادة في حالة الترهل الذاتي والانبطاح أمام العدو من جانب القوى المغتصِبة تعسفاً قيادة العمل الوطني الفلسطيني والمنسِقة من خلال أجهزتها الأمنية مع نشاط أجهزة العدو لقمع شعبنا ، والممارِسة للرشوة والمحسوبية والفساد الأخلاقي والمالي والمنغمسة في مستنقع المفاوضات العبثية مع العدو والتوقيع معه على المعاهدات التي شرعنت وجوده الأمر الذي أسس لنشوء حالة من الإحباط واليأس لدى قطاعات واسعة من شعبنا ، حيث تتطلب ذلك منا ضرورة نقض هذه الحالة باستنهاض الهمم من خلال استرجاع الوعي لما هو مشرق في تاريخ أمتنا العربية وشعبنا الفلسطيني من انتصارات على الغزاة الأجانب المتعاقبين وحتمية مجابهة ودحر الغزاة الاستعماريين الجدد بتصعيد كفاحنا الوطني التحرري1 اتساقاً مع تعاظم دور قوى المقاومة والممانعة للهيمنة العالمية في محيطنا القومي والإقليمي وصعود مراكز قوى عالمية ناشئة لها مصلحة في إنهاء حالة التفرد والسيطرة على العالم التي مثلتها الولايات المتحدة وأتباعها.
إن الدوافع التي كمنت وراء إصدار هذه الوثيقة ما زالت تتجذر عمقاً وتتصاعد علواً لدينا، ولهذا ارتأينا إعادة إصدارها في طبعة ثانية بعد نفاذ طبعتها الأولى تأخذ بعين الاعتبار التغيرات الجديدة على الوضع الفلسطيني ، حيث مقاومة وانتفاضة شعبنا وشبيبتنا البطلة ، وتعاظم الممانعة القومية والإقليمية والدولية ضد سياسة الهيمنة الإمبريالية وضد الرجعيتين العربية والإقليمية ، مع تأكيدنا على أن منحى وتفاصيل تلك التغيرات قد أكدت صحة التحليلات الواردة فيها واستشرافها للمستقبل ، وأن ما سندخله في هذه الطبعة من إضافات لا يمس جوهر منطلقاتها الأساسية ومقاربتها للتناقضات الفاعلة محلياً وقومياً وإقليمياً وعالمياً ، بل لا تعدو كونها شرحاً وتوضيحاً لتمظهرها.
صرخة وطنية ونداء من الاعماق
- لا للتسول على ابواب المستوطنين المستعمرين استجداء للفتات من حقوقنا المشروعة المؤدي لانقسامنا واقتتالنا الدموي.
- نعم للكفاح الوطني العادل المنتزع لحقوقنا المشروعة الموحد لكل طاقات شعبنا الحية.
- نداء نابع من اعماق التاريخ المجيد لشعبنا الفلسطيني وامتنا العربية.
- نداء من وحي ارواح القادة العظام الذين قادوا وانتصروا في معارك الامة الفاصلة في التاريخ ضد الغزوات الاجنبية الهمجية على ارض حطين وعين جالوت واجنادين والقادسية والسويس والجزائر وصولا الى المعارك الجزئية المؤدية الى النصر النهائي القادم التي جرت على ارض الكرامة، ومخيم جنين، وبنت جبيل، وعيتا الشعب، ومارون الراس، وغزة المحرقة.
- نداء نابع من وحي ارواح شهدائنا المعاصرين، وما أكثرهم الذين قتلوا برصاص البرابرة الجدد المستوطنين وحماتهم الإمبرياليين، ممن ارادوا التسامي بشهادتهم وتضحياتهم فوق الدعاية والإشهار فكانوا مجهولين إلا لمن يسير على خطاهم.
- نداء من وحي المخلصين لقناعاتهم، المأسورين وراء قضبان السجان المغتصب لأراضي وطنهم ولحرية شعبهم، والمدمر لبيوتهم والمجرف لأشجار بساتينهم وزرْعِ حقولهم، والحارم اطفالهم ونساءهم من عطف وحنان ابائهم.
- نداء من وحي الشباب الذين لا يعرفون طعم الراحة في نومهم، الناهضين قبل الفجر ليصطفوا طوابير امام حواجز الاذلال والاحتقار والإهانة لكرامتهم استجداء للعمل الشاق في الاراضي التي انتزعت بالقوة والغدر من ايدي آبائهم وأجدادهم.
- نداء من وحي الذين ضحوا بالغالي والنفيس وقضوا زهرة شبابهم وتشوهت اجزاء من اجسامهم في سجون الكيان دفاعاً عن الحقوق وحفاظاً على استمرار شعلة الكفاح التي تتعرض اليوم لمحاولات الاطفاء والدفن تحت الرماد.
- نداء من اعماق مخيمات العائدين الذين يرزحون تحت عسف اجهزة القمع للدول التي يعيشون فيها انتظاراً لتطبيق حق العودة الغير قابل للتصرف به، ولكونه ينبع من حقهم الطبيعي والتاريخي والوضعي في وطنهم الذي صنعته الاجيال السابقة من شعبنا بالدم والعرق على امتداد ستة آلاف عام من وجودها المتواصل على ارض وطنها لذلك فهو عصي على التصرف به لكونه ملك للأجيال اللاحقة من شعبنا التي لم تخول ايا كان للتصرف به نيابة عنها، لكونه كذلك تعبير عن علاقة التلازم الشرطية بين الشعب بأجياله المتتالية ووطنه عبر التاريخ الذي لا ينقطع في حركته إلا لينتقل الى مرحلة اكثر تطوراً.
- نداء من شعبنا الذي انتزعت منه بالعدوان أرضه، وشتت بالإرغام شمله، ويباد اليوم بالحصار والمحارق الجماعية ما تبقى من وجوده على ارض وطنه استكمالاً لتغيبه وزرع المستعمرين المستوطنين العنصريين مكانه، شعبنا هذا الذي شكل تاريخه المعاصر ملحمة ثورية، صبر خلالها على شتى انواع الماسي والمظالم، وقدم كل اشكال التضحيات بما فيها النفس والنفيس، لدرجة باتت نساؤه تزغرد في جنازات ابنائهن الشهداء، وتعد بتقديم المزيد منهم، شعبنا الصامد هذا لن يختفي عن ارض وطنه كما اختفى الذين نتألم لمصيرهم من الهنود الحمر وباقي الشعوب الاصلية في امريكا الشمالية والوسطى والجنوبية، ومنطقة البحر الكاريبي واستراليا ونيوزلندا وغيرها.
- نداء من وحي الكوادر الوطنية – ولا نقول القيادات – من كل الفصائل والمستقلين تنظيميا المخلصين، الذين التحقوا بالركب الوطني، وجالوا وتجولوا في انحاء العالم واخلصوا لقضية شعبهم وحقه في وطنه، وعندما طلب منهم عادوا الى ارض الوطن اعتقاداً منهم بمواصلة المسيرة التحررية، واذا بهم يفاجئون بضرورة تنسيق عملهم مع قوات أجهزة كيان المستوطنين وخضوعهم لإشراف ضباط المخابرات الأمريكية، العدو الأول لمصالح شعبنا وامتنا في التحرر والوحدة القومية، وأخيرا يجدون اليوم انفسهم على قارعة الطريق ليس لذنب اقترفوه سوى كونهم يحملون وعي وارث الجانب المشرق من حركتهم الوطنية التحررية، فاستحقوا بذلك التهميش بل التجويع تحت مسمى التقاعد المبكر الذي هو في جوهره اقصاء عن مواقع الفعل المؤثر على ما يجري في ارض وطنهم.
- نداء من وحي العقول و السواعد الفلسطينية التي قادت ونفذت قذف الحجارة خلال الانتفاضتين الاولى والثانية على عصابات المستوطنين الذين لم يكتفوا باستخدام احدث ما يمتلكونه من اسلحة الفتك بالمتظاهرين العزل، بل قاموا بتكسير عظام هؤلاء المتظاهرين بالحجارة امام عدسات تصوير الصحفيين الذين قاموا بعرضها على شاشات الكثير من المحطات الفضائية الاعلامية.
- من وحي هؤلاء جميعاً ينطلق هذا النداء متوجها الى عقل واحساس وضمير وشرف كل الشخصيات والكوادر الفلسطينية على اختلاف مشاربهم والذين يعتصر الالم قلوبهم مما آلت اليه التراجعات المجانية امام العدو والتي أدت وما تزال إلى الصراعات الدامية بين القوى الفلسطينية التي من المفترض ان تتحد في مواجهة عصابات المستوطنين للتحرر من استعمارهم.
- نتوجه مذكرين بالإطار التاريخي لنشوء وتطور قضيتنا الوطنية المعاصرة، ومبرزين للعناصر التي ما زالت تمارس الفعل والتقرير في المصير الحالي والمستقبلي لهذه القضية التي لم يتغير جوهرها حتى الان بحكم طبيعة المرحلة التاريخية التي تتحرك فيها، وهي مرحلة التحرر الوطني، نقوم بهذا التذكير لاعتقادنا بأن الذكرى تنفع المؤمنين بدينهم وبحقوق شعبهم.
– البيئة الدولية لتجزئة الوطن العربي واستعماره
ففي سياق سياسة اعادة تقسيم العالم من جديد، قامت الدول الاوروبية الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الاولى بتجزئة الوطن العربي الى اقطار منفصلة عن بعضها البعض تحت ادارة حكام محليين تابعين لها، تسهيلاً لاستمرار تلك الاقطار تحت الهيمنة والتبعية، التي تعمقت مع مرور الزمن نتيجة تكون شرائح اجتماعية محلية في كل قطر، قبلت بالفتات الذي يتركه لها اسيادها اعداء الامة والوطن، مشكلة بذلك نواة طبقة الكومبرادور العربي.
– أسباب استعمار فلسطين في شكل استيطان إحلالي
نظراً لموقع فلسطين الاستراتيجي على نقطة تماس قارات العالم القديم الثلاث برياً، آسيا وإفريقيا وأوروبا، ولكونها تصل بين مشرق الوطن العربي ومغربه، ولقربها من الممر الرئيسي – قناة السويس ــ الى مستعمرات الدول الاوروبية في جنوب شرق آسيا، ولظهور بوادر اكتشاف الثروة النفطية في المشرق العربي آنذاك، ولغير ذلك من الأسباب الاستراتيجية الكبيرة قررت تلك الدول اقتطاع قطرنا العربي الفلسطيني وتحويله إلى قاعدة لها في شكل استعمار استطياني إحلالي، اعتقاداً منها بصعوبة إزالته مستقبلاً والذي لم يكن بالإمكان تحقيقه إلا بتفريغه من شعبنا الذي مضى على وجوده فيه قرابة ستة آلاف عام. ومن أجل ذلك قامت عصبة الأمم– أول أداة دولية مشتركة أنشأتها الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى– بانتداب بريطانيا على فلسطين للقيام بعملية تجميع وتركيب عناصر تلك القاعدة اصطناعياً التي تمت فيما بعد باتقان دقيق وفي زمن قياسي وجيز نظراً لمصلحة وخبرة بريطانيا الغنية بشؤون الاستعمار الاستيطاني في مستعمراتها التي لم تكن لتغيب عنها الشمس آنذاك.
– الجوهر المخادع لجميع الوعود والحلول الدولية لقضية فلسطين المعاصرة
وخلال قرن من التعامل مع دول الاستعمار الاوروبي القديم ومع الامبريالية الامريكية الراهنة، لدغت امتنا العربية من جحر هذه الدول وما زالت تلدغ باستمرار حتى وقتنا الحاضر. فبدءاً بالوعود التي اعطيت للشريف حسين قبل وخلال الحرب العالمية الاولى ومرورا بالعديد من لجان تقصي الحقائق ومشاريعها لحل الصراع سواءً في عهد الانتداب البريطاني او فيما تلاه وصولاً الى ما يجري اليوم من طرح لمشاريع متعددة ومتتالية للتسوية الموهومة، وما يرافقها من تشكيل لجان واجتماعات يصعب تعدادها، حيث ثبت بالملموس ان الهدف من كل ذلك كان كسب الوقت لخلق حقائق على الارض لصالح الكيان الاستيطاني الذي اصبح اليوم يمتلك اكثر من 90% من اراضي فلسطين بعد ان طرد اكثر من ثلثي شعبها خارجها، وما تبقى منه يقبع تحت السيطرة الكاملة ومقسما الى معازل إثنية ” كانتونات“، في حين تتآكل حركتنا الوطنية المعاصرة بفعل الصراعات بين قابل ورافض لتلك التسويات الوهمية منذ فترة الانتداب، حيث كانت ثنائية الحسيني – النشاشيبي، وبعدها ثنائية الشقيري – عرفات في بداية منظمة التحرير وبعدها ثنائية فتح ـ الجبهة الشعبية وصولاً الى ثنائية فتح – حماس حالياً.
– ضرورة تحرير عقلنا من الوهم
وبعد الا يكفينا الركض وراء السراب؟ اما آن لنا ان نستفيق؟ ومتى نتوقف عن جعل التناقضات الثانوية رئيسية؟ وكم من الزمن نحتاج الى ان نبدأ بتحمل مسؤولياتنا الوطنية ذات البعد التاريخي، ونتوجه حالاً للخروج من الازمة الوطنية الراهنة والمدمرة؟ كم من الوقت نحتاج الى ان نبدأ بالتخلص من وهم التسويات الخيالية التي ثبت بالملموس عقم المفاوضات بشأنها وعبثية الاستمرار فيها، وأن نقر بحقيقة كوننا ما زلنا في مرحلة التحرر الوطني، ولسنا في مرحلة بناء دولة يستحيل بناؤها تحت سيطرة أقسى انواع النظم الاستعمارية الاستيطانية التي مارست سياسة التمييز والفصل العنصريين، وتفوق بأضعاف المرات قساوة سياسة هتلر النازية ودوكليرك العنصرية في جنوب إفريقيا. أولم يثبت بالتجربة الحسية بعد ان المفاوضات مع كيان المستوطنين منذ مدريد مروراً بأوسلو وواي ريفر وكامب ديفد وطابا والرباعية الدولية وانابوليس لم تجلب لشعبنا سوى المزيد من القتل والدمار والاغتيالات ومصادرة الاراضي وهدم البيوت وتقطيع الاشجار وتجريف البساتين وبناء المستوطنات وجدار الفصل العنصري واقامة مئات الحواجز العسكرية وأبراج المراقبة الفولاذية على مداخل مدننا وقرانا ومخيماتنا الفلسطينية؟ حقا لقد بات من الصعب علينا تفسير استمرار وجود بعض المتنفذين بيننا ممن يتملكهم الوهم وتصاب ذاكرتهم بمرض النسيان وعقولهم بفقدان البصيرة، فيتنكرون لحقائق تاريخنا الحديث والمعاصر والراهن لدرجة باتوا يعتبرون الامبريالية الامريكية والدول الاوروبية – التي رعت انشاء وتمويل وتسليح وحماية المستعمرين المغتصبين لفلسطيننا وتمعن في نهب خيرات امتنا العربية – اطرافا محايدة ونزيهة في الصراع لدرجة سلموا لها بدور القاضي العادل الذي يوثق بأحكامه ويبني عليها مستقبل شعبنا وأمتنا فأي فلسطينيين هؤلاء؟ واي عقول يمتلكون اذ يثقون بوعود من دمر بلاد الرافدين وحولها الى بحر من الدماء يسبح فيه مجموع شعبها، هذا الذي وعده بوش بأنه سيعيش في واحة من الديمقراطية النموذجية لشعوب المنطقة.
فكيف لفلسطيني وطني يمتلك الحس السليم والعقل الرزين بعد هذه التجارب المفحمة أن يثق بوعود هذا السفاح المارق الذي يكذب ليل نهار على شعبه قبل غيره؟ وهل تختلف وعوده لنا عن وعود من سبقوه من المستعمرين امثال ماكماهون، سايكس بيكو، بلفور.. وغيرهم كثيرين؟؟ الم يحن الوقت بعد لطرد الوهم من العقول ونفض الغبار عن العيون والتوقف عن هدر زمن حركتنا التحررية؟؟ والى متى يبقى الوعي المزيف الذي يغيب عن عقلنا حقيقة الترابط العضوي بين قوى الهيمنة الامبريالية والكيان الاستيطاني العنصري باعتبار الثاني اداة للأول؟ الا يتجسد كل العقم الفكري في الاعتقاد بإمكانية مجابهة الثاني دون الأول.
– حتمية فهم الواقع موضوعياً
لذلك كله نرى ضرورة الانسحاب النهائي من مهزلة المفاوضات لثبوت كونها تغطي جرائم
عصابات المستوطنين المستعمرين وتشرعنها، كما تعمق الخلافات الفلسطينية لدرجة الاقتتال الدموي، وتوحي بإمكانية حلول عادلة لا وجود لها اصلاً الا في مخيلة الواهمين، الامر الذي يتطلب ضرورة ان تتحمل الاطراف الدولية – التي شجعت ودفعت الفلسطينيين للتوقيع على اتفاقيات مع العدو الذي رفض تنفيذها– مسؤولية النتائج القانونية والسياسية والاقتصادية بما في ذلك الادارية والمالية التي القيت على كاهل السلطة الفلسطينية المزعومة، بموجب تلك الاتفاقيات، علما بأن مسؤولية اعباء المناطق المحتلة تقع على كاهل سلطات الاحتلال بموجب الاتفاقات الدولية التي تنظم شؤون من يقع تحت الاحتلال. ومع ادراكنا لعلاقة الترابط الضروري بين المواقع والمواقف وتبعية الثانية للأولى، الا ان وعينا بالمسؤولية الوطنية يدفعنا الى البقاء في دائرة حسن الظن، فنقول ان هنالك ثمة خطأ في التقدير دفع المتنفذين في حركتنا الوطنية الى الافتراض بتجاوزنا لمرحلة التحرر الوطني ودخولنا في مرحلة بناء الدولة الوطنية، الامر الذي دفعهم لاستبدال مواقع التناقضات في قضيتنا الوطنية الراهنة، فأصبح عندهم التناقض الرئيسي المتعلق بمهمة التحرر ثانوياً، والتناقض الثانوي المتعلق بتباين الرؤى والأساليب لانجاز تلك المهمة رئيسياً، وبالتالي تم استحضارهم لمهام بناء الدولة الموهومة راهناً، الفاقدة لاي من مقومات الوجود ارضاً وسكانا وسيادة، وتغييبهم لمهام التحرر الوطني لاعتبارهم اياها عبثية، لذلك نعتقد ان السير على هدى هذه الفرضية شكل نقطة الانطلاق نحو الاتجاه الخاطىء في مسيرة حركتنا الوطنية مما خلخل بنيتها وشوش افكارها وفردن قيادتها وخرب علاقتها بحلفائها الحقيقيين الذين يتخندقون معها في نفس المواقع، كما سهل على المنتفعين والفاسدين التسلق على اكتافها. وعليه تصبح ضرورة اتفاق كافة القوى الفلسطينية على تحديد طبيعة المرحلة التاريخية التي نمر بها شرطا اساسيا لتوجيه ممارستنا الكفاحية حصرياً نحو تحقيق تحررنا الوطني، فتاريخ الشعوب لا يتحرك فوضوياً وان ظهر للبعض انه كذلك، بل يتمرحل بحيث تتشكل في كل مرحلة منه قوى اجتماعية واقتصادية وسياسية لكل منها مصالحها الخاصة بها والتي على ضوئها تحدد اهدافها ووسائل تلك الاهداف التي بدورها تتبدل ثم تتمايز عن بعضها في كل مرحلة من تطورها. ويخطئ معرفيا كل من يعتقد ان التاريخ يسير في خط مستقيم تتكلس فيه القوى ومصالحها ورؤاها دون أي تغيير كما تدعى الايديولوجية الصهيونية.
– مرحلة التحرر الوطني تسبق مرحلة بناء الدولة الوطنية
ان الاقرار بكوننا ما زلنا في مرحلة التحرر الوطني يشكل لنا بوصلة نهتدي بها في ترتيب اولوياتنا الوطنية وعلاقاتنا البينية من جهة ومع الاخرين من جهة اخرى، وهذا يتطلب في المقام الاول التوقف عن الهرولة وراء المستعمرين المستوطنين طلبا للتوقيع معهم على مزيد من الاتفاقات، لعلمنا المسبق بعدم التزامهم بها كما علمتنا التجربة، ولأنها اصلا جزء من عملية خداع شاملة سميت زورا بعملية السلام بدءا باتفاقيات كامب ديفيد مع مصر السادات ومرورا بمباحثات مدريد واتفاقات اوسلو وطابا .. وصولا الى وعد بوش المهزلة بإقامة الدولة المسخ قبل نهاية عام 2008، والتي تندرج كلها في عملية استسلام اقليمي عربي كامل نسبيا، جوهرها الانخراط في مشروع الشرق الاوسط تحت ادارة الكيان الصهيوني، الذي يريد له رعاته دورا جديدا اقتصاديا بعد ان كان عسكرياً مندمجاً بالكامل في الجهاز العسكري الأمريكي ومتمتعا بوضع متميز في اطار العلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية، حيث تلقى منهم خلال الاربعين سنة الاولى من وجوده معونات بمعدل اربعة مليارات دولار سنوياً ” 4 مليارات دولار ” لقاء دور جندي حراسة اقليمي في مواجهة حركة التحرر العربي ودول المعسكر الاشتراكي سابقاً طبقا لما ورد على لسان سكرتير سابق لحلف شمال الاطلسي هو “جوزيف لانز” الذي قال: “كانت اسرائيل الجندي المرتزق الاقل كلفة في عصرنا الحديث“، الا ان التطورات اللاحقة المتعلقة بانهيار المعسكر الاشتراكي ومن بعد العدوان الامبريالي على العراق وما رافقه من تجميع اغلبية الانظمة العربية في شكل تحالف عسكري تحت الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية الأمريكية وقيام تلك الانظمة بقمع الحركات الشعبية العربية، كل ذلك حمل الولايات المتحدة التي وجدت نفسها القوة العالمية الاولى الاكثر نفوذا عسكريا واقتصاديا على اعادة النظر في دور الكيان في عالم ما بعد الحرب الباردة، الذي يسيطر فيه السوق و قوانينه، وقد استوعب قادة الكيان من جانبهم مغزى التطورات العالمية والإقليمية الجديدة، وحاجة القوى المهيمنة الى اعادة ضبط الاوضاع في الشرق الاوسط بما يتلائم مع النظام العالمي الجديد، وحاجته الى تحويل دور الكيان من قاعدة عسكرية متقدمة للاسطول السادس في المنطقة الى قاعدة اقتصادية اقليمية متقدمة للشركات متعددة الجنسية الامريكية والأوروبية واليابانية المتلهفة لزيادة استثماراتها في المنطقة، الامر الذي ترجم في مؤتمر مدريد الى مشروعات اقتصادية اقليمية وثيقة الصلة بالسوق الدولي من حيث جلب المزيد من الاستثمارات وزيادة الانتاج من جهة وكسب اسواق جديدة لتصريفها من جهة اخرى. ولما كانت الاسواق العربية مغلقة بوجه المنتجات ورأس مال الكيان نتيجة للمقاطعة العربية، كان لا بد من التفكير والعمل على كيفية فتحها بانتهاج سياسة الانفتاح والتطبيع مع العالم العربي، الا ان استمرار المقاومة الفلسطينية وما ينشأ عنها من توترات اقليمية وتعاطف جماهيري عربي وإسلامي معها كان يشكل احد العقبات الرئيسية التي تعوق انتهاج سياسة الاعتراف والتطبيع العربي مع الكيان، لذلك توجب امريكيا وأوروبيا اختراع اكذوبة “عملية السلام” او “التسوية السياسة للصراع” التي لم يكن بالإمكان تصديقها إلا بانخراط الفلسطينيين فيها وإجرائهم مباحثات مباشرة مع الكيان الاستيطاني وتوقيعهم على اتفاقيات معه تسهل على دول المحيط الاقليمي العربي اتخاذ الاجراءات اللازمة لانهاء المقاطعة من جهة وبدء اجراءات الاعتراف والتطبيع من جهة اخرى، وصولاً الى الانخراط الجماعي مؤسساتيا معه في التبعية البنيوية للاقتصاد الرأسمالي المعولم، وكان بيريز احد مهندسي مشروع الشرق الاوسط والمعروف بمراوغته وقدرته على اخفاء نوايا الكيان قد اضطر الى الصراحة توضيحاً لفوائد المشروع على الكيان عندما قال: ” ان الهدف الاساسي لاتفاقيات اوسلو ليس الفلسطينيين وانما التطبيع مع العالم العربي و فتح اسواقه” وكنا قد شاهدنا بعد مؤتمر مدريد عام 1991 وتوقيع اعلان المباديء في اوسلو عام 1993، واجتماع القاهرة عام 1994، ان مؤتمراً اقتصادياً موسعاً قد عقد في الدار البيضاء استقبل فيه ممثلو الكيان بالأحضان، حيث تتالت بعده اجتماعات اللجان الثنائية والمتعددة الاطراف للطامحين في الانخراط في مشروع الشرق الاوسط.
وهكذا يتضح ان تطبيع علاقات الفلسطينيين مع الكيان مثلث حاجة ماسة لمصالح الكومبرادور العربي وأنظمته الغارقة في التبعية من جهة وتخريباً لمصالح حركة التحرر الفلسطيني والقومي العربي من جهة اخرى. إلا ان المقاومة الجماهيرية الفلسطينية والعربية استطاعت محاصرتها وافشالها على الرغم من استشراس الكومبرادور العربي والفلسطيني وسادتهم لإنجاحها.
– إنجاز التحرر الوطني يقتضي مواجهة الهيمنة الأجنبية وليس بالتبعية لها
ان المراجعة النقدية الموضوعية لتجربة حركتنا الوطنية الفلسطينية المعاصرة تؤكد ان انخراط قيادتها المتنفذة في سياق ما يدعى بـ “عملية السلام” الاكذوبة وتوقيعها على اتفاقيات مع الكيان، لم ينتج عنها لنا سوى احباط وتخدير للقوى الحية في شعبنا وأمتنا وتفتيت لوحدتنا الداخلية، في حين ان المنخرطين فيها منذ كامب ديفيد السادات حتى الان لا يملكون من امرهم الا الصراخ والعويل مطالبين اسيادهم بتحريكها بعد ان امتنعوا هم ومنعوا غيرهم من أي حركة خارجها، على الرغم من عدم حصولهم على ارض الواقع سوى على حركة عكسية ارتدادية دمرت لهم كل الاسس التي انبنى عليها وهمهم في اقامة سلام عادل وشامل يعيد الحقوق لأصحابها كما ادعوا ويدعون. لقد اصبح حديثهم عن عملية السلام الموهومة وضرورة تحريكها ليس مثيراً للضحك والسخرية وحسب، بل للاشمئزاز والتقزز لدورانه في حلقة مفرغة مملة.
ومرة اخرى نفرض على انفسنا البقاء في دائرة حسن الظن فنقول: “إن تغييب قيادة الحركة الوطنية عن وعيها علاقة الترابط الضروري بين طبيعة بنية الكيان الاستيطاني العنصرية الاحلالية ووظيفته في تطويع المحيط الاقليمي لهيمنة صانعيه، جعلهم يقبلون حصرياً كموضوع لمفاوضتهم واتفاقهم معه، نتائج سياسته ذات الطابع الكمي الآني التي تطفو على سطح حركة الواقع من جهة اولى، ويغيبون الاسباب العميقة الكامنة في تلك الطبيعة المحركة لذلك الواقع غائيا من جهة ثانية، وبذلك تحول عندهم السياسي الى مطلبي والتاريخي الى آني عابر والمستقبلي الى لحظي والكيفي الى كمي، والجذري الى فرعي، والعميق الى سطحي، والكلي الى جزئي، كما تناسوا الدور الوظيفي للكيان اتجاه رعاته، فبالنسبة لرعاته الاوائل، قام الكيان بالعدوان على مصر عبد الناصر تمهيداً للتدخل العسكري البريطاني الفرنسي عام 1956، لإعادة سيطرتهما على قناة السويس، ومعاقبة له على تأييده لثورتي الجزائر واليمن الجنوبي، ولوقف توجهاته الوحدوية العربية مع سورية، ولمناهضتة سياسة الاحلاف العسكرية بدءا بحلف بغداد ومروراً بمبدأ ايزنهاور وصولاً الى معارضته للانزالين العسكريين البريطاني في الاردن والأمريكي في لبنان بعد ثورة تموز التحررية في العراق عام 1958، الا ان فشل العدوان الثلاثي الاستعماري على مصر وانهيار حلف بغداد قد أديا الى تراجع مركزي بريطانيا وفرنسا في الهيمنة على الشرق الاوسط لصالح الولايات المتحدة الامريكية التي تسلمت منهما موقع الراعي الاول للكيان ألاستيطاني والتي بدورها لم تتأخر كثيراً عن استخدامه لصالح هيمنتها، فدفعته للقيام بعدوان جديد عام 1967 للسيطرة على ما تبقى من فلسطين استكمالاً لاستيطانها، ولاحتلال اراضٍ مصرية – شبه جزيرة سيناء، وأراضٍ سورية – منطقة الجولان – عقابا لهما على الاستمرار في سياستهما الوحدوية التحررية من جهة اولى ولمقايضتهما تلك الاراضي المحتلة بدخولهما بيت الطاعة الامبريالي بقيادة الولايات المتحدة، وصولاً الى تصفية القضية الفلسطينية وإخضاع المنطقة برمتها للهيمنة وإدماجها نهائياً في التبعية للسوق الرأسمالية المعولمة لصالح الشركات المتعددة الجنسية الأمريكية والأوروبية واليابانية من جهة ثانية.
– سياسة الكيان نابعة من خصائصه البنيوية
هكذا يتبين ان سياسة الكيان ليست عفوية ولا هي تعبيراً عن نزعه فرديه لهذا القائد او ذاك او
هذا الحزب او ذاك بل هي تجسيد لحركة بنيته التي تتميز بخصائص عضوية تلازمها منذ نشأتها وتوجهها نحو القيام بادوار وظيفية لصالح رعاتها كل في حينه. وغني عن البيان ان هذه الخصائص لا تنفرد بها بنية كيان المستوطنين الاستعماريين في فلسطين لوحدها، بل تشترك فيها مع بقية بنى الكيانات الاستعمارية الاستيطانية الاوروبية المماثلة لها في طريقة التكوين والتي سبقتها منذ قرون بعد الاكتشافات الجغرافية الكبرى عام 1492م فيما يدعى بالعالم الجديد البالغة مساحته 48 مليون كم مربع تقريباً في كل من امريكا الشمالية– كندا ، الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك– وفي أمريكا الجنوبية والوسطى ومنطقة الكريبي وكذلك في استراليا ونيوزيلندا. إضافة إلى شمال وجنوب وشرق القارة الأفريقية في كل من جنوب إفريقيا وناميبيا وأنغولا وموزمبيق وزيمبابوي (وروديسيا) وأوغندا وكينيا والجزائر وتونس وآخرها في فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى حيث تقع هذه البلدان جميعاُ ضمن مساحة تزيد على ستة ملايين كم مربع. وبذلك تكون مساحة المستوطنات الاستعمارية الاوروبية قد بلغت 54 مليون كم مربع.
وعلى الرغم من تباين أمكنة تموضع ظاهرة الاستعمار الاستيطاني الاوروبي جغرافياً إلا أنها شكلت جميعاً نمطاُ متماثلاً في طريقة التكوين الاصطناعي ونشأت في سياق التوسع الرأسمالي الاوروبي في البلدان المستعمرة كذيل تابع للمراكز الصناعية الاوروبية المتطورة.
إن السمة الأساسية للتكوينات الاستعمارية الاوروبية لا تستخرج من أفكار أو لون أو لغة المستوطنين ولا من عقائدهم الدينية أو أصولهم الطبقية في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها قبل هجرتهم إلى المستعمرات التي زرعوا فيها اصطناعياً، بل تستخرج من طريقة خلقهم لشروط وجودهم المادي فيزيائياً وحيوياً اجتماعياً ومن أسلوب تلبيتهم لوسائل عيشهم، ومن كيفية ارتباطهم التبعي بنيوياً بالدول الصانعة والراعية لهم. وكذلك من طريقة تفاعلهم مع السكان الأصليين للأقاليم الستوطنة.
نقول هذا استناداً إلى حقائق التاريخ التي تؤكد أن خلق شروط وجود الكيانات الاستعمارية الاستيطانية قد مر من خلال الالغاء التدريجي بواسطة العنف والتدمير لوجود الكيانات الاجتماعية الأصلية التي كانت قائمة بشكل طبيعي في أوطانها قبل قدوم المستوطنين إليها بزمن طويل. وفيما يلي نقدم بالإيجاز الخصائص الأساسية التي تشترك فيها جميع بنى الكيانات الاستعمارية الاستيطانية الاوروبية المشار إليها أعلاه:
خاصية الانتماء المشترك لاطار تاريخي واحد هو الاطار الاستعماري الاوروبي
خاصية التميز والتمييز العنصري للمستوطنين تجاه السكان الاصليين لاقاليم الاستيطان
خاصية تمتع المهاجرين المستوطنين بحماية الدولة المستعمرة لاقليم الاستيطان
خاصية التجميع الاصطناعي للمهاجرين الى اقاليم تخضع لسيطرة دولة اوروبية مستعمرة
الخاصية العدوانية الملازمة لكيانات المستوطنين النابعة من حاجتهم الضرورية لانتزاع اراضي السكان الاصليين
خاصية التوسع الجغرافي الحتمي لكيانات المستوطنين المرتبط بازدياد تدفق المهاجرين الجدد و حاجتهم لارض السكان الاصليين
خاصية استخدام المستوطنين للعنف كوسيلة لاخضاع السكان الاصليين لسيطرتهم، في حالة استغلال قوة عملهم، ولنفيهم بالقتل والتدمير في حالة الحلول مكانهم.
خاصية انغلاق المستوطنين على ذاتهم وعزل السكان الاصليين والانعزال عنهم في حالة بقائهم لاستغلال قوة عملهم.
خاصية تعالي المستوطنين على السكان الاصليين واحتقارهم باعتبارهم ادنى منهم درجات عدة في سلم التطور البيولوجي والحضاري حسب زعمهم.
خاصية عداء المستوطنين المطلق لسكان المحيط الاقليمي ان وجد، طمعا في
استغلال ثرواته الطبيعية وقوة عمله البشرية، وللتوسع في مجاله الجغرافي.
خاصية تبعية الكيانات الاستيطانية لدولها الام التي رعت عمليات انشائها وأوجدت لها شروط التحول الى كيانات سياسية.
خاصية اشتراك المستوطنين الاستعماريين جميعاً في بنية فكرية تستند الى تحريف النصوص والمعتقدات الدينية، واستحضار اساطير تاريخية قديمة مزيفة، وتزوير مفاهيم علمية، بيولوجية، وسوسيولوجية لتشويه الوعي بحقيقتها، وتبريرا للسيطرة على السكان الاصليين وابادتهم عند الضرورة تحت مسميات كاذبة وخادعة تدعي التبشير للاديان حينا ولنشر الحضارة حينا اخر.
وتفيد المعرفة العلمية المستخرجة من التجارب التاريخية الحديثة لعمليات نشوء وتطور الكيانات الاستيطانية الاستعمارية الاوروبية خارج قارتها من حيث نتائجها النهائية على السكان الاصليين لاقاليم الاستيطان باستثناء الفاشل منها – في الجزائر وانغولا وموزامبيق، وكينيا واوغندا وتونس– أنها عرفت نمطين لا ثالث لهما:
النمط الاول :
وهو ما تنطبق عليه كل الخصائص الواردة اعلاه، والذي ندعوه اصطلاحياً بـــ “الاستعمار الاستيطاني الاستغلالي” لكون المستوطنين اضطروا للتعايش النسبي مع السكان الاصليين الذين قاوموا بشجاعة عمليات تصفيتهم الجسدية وتدمير حضارتهم واصروا على البقاء فوق ارض وطنهم. الا ان صيغة التعايش التي استمرت بين الطرفين قد ارتكزت على قاعدة سيطرة المستوطنين واستغلالهم للارض وللسكان الاصليين معاً، وقد شكلت هذه القاعدة مصدراً لنشوء التباين ومن ثم الاختلاف في المصالح وبالتالي في المواقف بين جماعة المستوطنين الذين اصبحوا يملكون رأس المال والسلطتين السياسة والاقتصادية من جهة، وبين مجتمع السكان الاصليين المجردين منها والمقتصرة ملكيتهم على قوة عملهم المأجورة من جهة اخرى، وعلى الرغم من ان هذا التعايش كان مشروطاً بعلاقات عدم المساواة الاقتصادية والسياسية، وبتطبيق نظم التمييز والفصل العنصري، الا ان البنى الاجتماعية لهذا النمط قد واصلت تطورها التدريجي نحو الوضع الطبيعي، حيث اخذ المستوطنون بالاندماج البطيء شيئاً فشيئاً مع السكان الاصليين، ونتيجة لهذا الاندماج الطوعي وما رافقه من عيش مشترك اصبح التناقض الاساسي في هذه البنى الاجتماعية الجديدة ينبع من علاقات الاختلاف في المصالح بين مالكي وسائل الانتاج من جهة وبين مالكي قوة العمل المأجور المنتج لفائض القيمة “القيمة الزائدة” من جهة اخرى، بعد ان كان ينبع من اختلاف الاصول الاثنية والعرقية لكلا الطرفين، هذا بالاضافة الى بقاء الكثير من الرسوبات السابقة وخاصة ما يتعلق منها بالبنى الفوقية، كالافكار والعادات والقيم الاجتماعية والمفاهيم السياسية والتكوين النفسي لذوي الاصول الاستيطانية، ويتجسد هذا الشكل الاندماجي بين المستوطنين والسكان الاصليين في الشعوب التي تقطن حالياً بلدان امريكا الجنوبية والوسطى، ومنطقة البحر الكاريبي، وكذلك في انغولا وموزامبيق، وسكان جنوب افريقيا بعد الاطاحة مؤخراً بنظام الفصل والتمييز العنصري، اما بالنسبة لحالة زيمبابوي “روديسيا الجنوبية سابقاً” فما زالت تشهد توترات عرقية بسبب اصرار المستوطنين الاوروبيين البيض “المدعومين اوروبياً وامريكياً” على الاحتفاظ بامتيازاتهم الاقتصادية المتمثلة في ملكيتهم لمزارع ومناجم ما زال يعمل فيها الافارقة اصحاب البلاد الشرعيين على الرغم من الاطاحة بنظام ايان سميث العنصري السابق.
النمط الثاني :
وندعوه على سبيل الاصطلاح ايضاً بــ “الاستعمار الاستيطاني الاحلالي” لكون المستوطنين قد تمكنوا “لأسباب يتعذر لضيق المكان ذكرها” بعد السيطرة على اقاليم الاستيطان من ابادة سكانها الاصليين جسدياً وتدمير حضارتهم نهائياً والحلول مكانهم، كما حدث للهنود الحمر فيما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الامريكية ولقبائل السكان الاصليين في كندا واستراليا ونيوزلنده، وكما يعمل كيان المستوطنين الحاليين في بلادنا فلسطين، حيث اخرج بالعنف ثلثي شعبنا منها، وانتزع بالقوة المسلحة 93% من مساحتها وما تبقى من شعبنا يحشر قسرا في معازل عنصرية على غرار ما جرى للهنود الحمر في امريكا الذين وضعوا في محميات سهلت على المستوطنين ابادتهم النهائية وبشكل مقنن.
وعلى سبيل المثال فقد اصدرت الجمعية التشريعية في انجلترا الجديدة في عام 1703 قانونا بدفع مكافأة مالية قدرها أربعون (40) جنيها استرلينياً عن كل قطعة من جلدة رأس مسلوخة مع شعرها لهندي احمر، وفي عام 1774 زيد مقدار المكافأة، الى مئة (100) جنيه إسترليني، وبهذه الطرق من الابادة المنظمة تقلصت اعداد السكان الاصليين من الهنود الحمر في امريكا الشمالية من عشرة ملايين الى 200 الف ساكن مع تدمير كامل لحضارتهم التي بدأت تعرف الزراعة قبل عشرة آلاف عام من غزو المستوطنين لها، وقد عوض المستوطنون الاستعماريون قوة عمل الهنود الحمر المبادة بقوة عمل الزنوج المستوردة من افريقيا لاستعبادها حيث ارتفع متوسط ثمن العبد الافريقي من 150 دولار في بداية القرن التاسع عشر الى الفي دولار عام 1860. ويقدر المؤرخون عدد سكان الهنود الحمر في بداية الغزو الاستعماري الاستيطاني الاوروبي لبلادهم بين 57 الى 80 مليون ساكن، كما يقدر ليوبولد سنغور رئيس جمهورية السنغال السابق عدد الزنوج الافارقة الذين وصلوا الى مستعمرات الاوروبيين الاستيطانية بين 10 الى 20 مليون زنجي، علما بأن كل محاولة للامساك بواحد منهم كان يموت حوالي عشرة افراد على اقل تقدير. هذا بالإضافة للوفيات التي كانت تحصل خلال عملية نقلهم في زرائب حيوانية “بمعنى استنزاف الطاقة البشرية الافريقية بين 100 الى 200 مليون انسان.” ولذلك يعتبر تاريخ الولايات المتحدة خاصة وتاريخ جميع كيانات الاستيطان في المستعمرات الاوروبية عامة هو في جوهره، تاريخ ابادة الهنود الحمر، وكل الشعوب الاصلية المبادة في تلك المستعمرات، مضافا اليه التاريخ الراهن للولايات المتحدة وهو تاريخ الهيمنة والاستغلال والعدوان العسكري على شعوب اسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، وكذلك تخريب التوازن البيئي على كوكبنا، وإفساد شروط الحياة عليه.
كما أن تاريخ الكيان الاستيطاني الاستعماري الاحلالي في فلسطين ليس سوى تاريخ تدمير للشعب الفلسطيني وحضارته وعدوان على المحيط الاقليمي لتطويعه لهيمنة الراعي الامبريالي لهذا الكيان.
– خصوصية الكيان الاستعماري الاستيطاني الإحلالي في فلسطين
وانطلاقاً مما تقدم، اخذين بعين الاعتبار ما هو عام ومشترك بين كل التكوينات الاستيطانية الاستعمارية، والاحلالية منها على وجه الخصوص، ولما هو منفرد في كل تكوين على حدة، وإدراكاً لخصوصية التكوين الاستيطاني في بلادنا المتمثلة في كونه قاعدة طفيلية متقدمة للهيمنة العالمية، وظيفتها تطويع المحيط الاقليمي للمركز المهيمن في حينه.
ووعيا منا للعلاقة الشرطية بين الدور الوظيفي لهذا التكوين وخصائص بنيته المتمثلة في حتمية انغلاقها وانعزاليتها، وما يضفي عليها ذلك بالضرورة خاصية الطفيلية، وعدم القدرة على الانفكاك من التبعية لتلك المراكز. وتأكيدا لطبيعته تلك وتلبية لدوره الوظيفي واستنادا الى نتائج عدوانه عام 1967م الذي سيطر الكيان بموجبه على كل فلسطين، واخضعها ارضا وشعبا لسيطرة وسيادة جيشه وقوانينه، الامر الذي مكنه من الاستيلاء على ما يقارب 93% من الارض واستكمال تشريد اكثر من ثلثي شعبنا منها. وما تبقى منه يحشر اليوم قسرا في معازل (كانتونات) إثنية منفصله عن بعضها، وتخضع لشروط أمنية غاية في القساوة، كالحد من حرية الحركة والالتحاق بالعمل ان وجد، وعدم القدرة على تحصيل وسائل العيش، ناهيك عن التعرض للاعتقالات والاغتيالات الممنهجة. كما يواصل مصادرة الارض وتجريفها، وخلع الاشجار وهدم البيوت والتحكم في مصادر المياه ومعابر الحدود دخولا وخروجا. هذا بالإضافة الى ممارسة الفصل والتمييز الإثني (الابارتهايد) المتمظهرة في كل جوانب الحياة وأبرزها بناء جدار الفصل الإثني الذي يقام قي الوقت الذي يشهد فيه عالمنا الراهن الغاء الحدود الجغرافية والحواجز الاقتصادية والثقافية بين الشعوب والدول، الامر الذي يؤكد انغلاق الكيان على نفسه وتكلسه، ويثبت حقيقة كونه يسير باتجاه معاكس لحركة المجتمع الانساني وتطوره التاريخي. وقد توج الكيان سياسته العدوانيه هذه بتطبيق سياسة الحصار الاقتصادي والتجويع، وصولاً الى إعلانه الرسمي عن ممارسة المحرقة على اهلنا في غزة هاشم التي اثبتت بدورها انها عصية بكل قواها المقاومة على سياسته النازية الجديدة.
– شروط قدرة الكيان على القيام بوظيفته لرعاته
وإذا اضفنا الى ما تقدم ان قدرة الكيان –القاعدة– على القيام بدوره الوظيفي لرعاته منوطة برجحان قوته على مجموع قوى محيطه، حيث ضمن له ذلك الراعي الامبريالي سابقا، وان ثمة بوادر اخذت تظهر في الافق تدل على امكانية عدم استمرار ذلك الرجحان في المستقبل، بدءاً بحرب اكتوبر عام 1973م ومروراً بعدوان عام 1982م وما تلاه من عجز امام المقاومة في فلسطين ولبنان واضطرار رعاته لخوض حربين عدوانيتين على العراق اعتمادا على قواهم الذاتية دون اشتراك مباشر للكيان الذي منى فيما بعد بهزيمة واضحة ومؤكدة باندحاره وانسحابه من لبنان بفعل ضربات المقاومة اللبنانية عام 2000 وهزيمته الساحقة في تموز 2006م، وعجزه لاحقاً أمام المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة في 2008 و 2012 و2014.
وبذلك تتأكد بداية التآكل التدريجي ليس لدور الكيان الوظيفي الاقليمي لفرض هيمنة رعاته العسكريه وحسب بل وعجزه عن حماية نفسه، بدليل اضطرار هؤلاء الرعاة لاستحضار قوات اليونيفيل الدولية الى جنوب لبنان لحمايته وليس لحماية لبنان بالطبع.
وقد بات واضحاً الان انه من اكثر التناقضات حدة وتفاقما في منطقتنا تلك التي تتعلق بمستقبل الصراع مع الكيان وخاصة تأمين تجديد متطلبات استمرار رجحان ميزان قوته والذي اصبح يشترط بالضرورة منع التطور العلمي والتكنولوجي والتقدم الاجتماعي والاقتصادي لدول المحيط الاقليمي لإعاقة امتلاكها عناصر القوة التي تمكنها من الدفاع عن مصالحها وتحررها من الهيمنة والسيطرة الاجنبية بدليل تدمير الكيان للمفاعل النووي العراقي ثم تأييده القوي للحرب العدوانية على العراق التي دمرت بنيته العلمية ونهبت ثروته الحضارية والنفطية. هذا بالإضافة الى مواقفه الهستيرية المتشنجة لدرجة الجنون ضد البرنامج النووي السلمي الايراني وتهديده المعلن بتدميره، وكذلك قصفه مؤخراً لمنشأة علمية سورية.
ومن هنا يتبين على ضوء التجربة والوقائع الملموسة عبر التاريخ أن مصير فلسطين قد ارتبط عضوياً بمصير محيطها القومي أثناء الغزوات الأجنبية المتتالية عليه سواء خلال سيطرتها أو بعد اندحارها عنه. إن خطر الكيان العنصري لا يقتصر على الشعب الفلسطيني وحده ، بل يمس المصالح الجوهرية لدول وشعوب المحيط القومي الاقليمي وتطلعاتها نحو التقدم والتحرر وهذا ما يؤسس للترابط الموضوعي بين مصلحة الشعب الفلسطيني ومصالح شعوب ذلك المحيط في مواجهة خطر الكيان، وضرورة تفكيك بنيته الاستعمارية العنصرية والغاء دوره الوظيفي الاقليمي لصالح قوى الهيمنة العالمية وصولاً إلى تحرير فلسطين التاريخية من ذلك الاستعمار وتوحيدها في دولة ديمقراطية شعبية تقدمية.
– موقع الكيان في منظومة تناقضات عصرنا
ومع ان الكيان الاستيطاني في بلادنا شكل جزءاً بنيويا من منظومة الظواهر الاستعمارية الاستيطانية الاوروبية، الا ان نشوئه في فلسطين جاء متأخراً زمانياً في المرحلة العليا من النظام الاستعماري العالمي، ليسد حاجة لوجيستية موضعية له في منطقة جغرافية حساسة استراتيجيا ولكنها صغيرة المساحة وفقيرة الثروة الطبيعية، وهذا ما جعل الكيان يتسم بخصوصية القاعدة الوظيفية الطفيلية، التي اعتمدت نشوءاً وتجديداً للذات وممارسة للوظيفة، على رعاية وحماية وإعالة مراكز الهيمنة الاستعمارية العالمية كل في حينه. وبخلاف مناطق الاستيطان الاخرى التي كانت مربحة اقتصادياً لسعتها من جهة ولاحتوائها على ثروات طبيعية متنوعة من جهة اخرى، كانت وما زالت فلسطين مكان تموضع الكيان الاستعماري الاستيطاني الاوروبي غير مربحة في حد ذاتها لمراكز الهيمنة. بل ان الربح قد تأتى من موقعها المسخر لجنيه من غيرها وخاصة من محيطها الاقليمي .
وعلى ضوء ما تقدم نستطيع معرفة الخطورة الحقيقية الكامنة في سياسة الكيان النابعة من تمييزه الإثني وانغلاقه ووظيفته ليس فقط على الشعب الفلسطيني الضحية الاولى لهذه السياسة وعلى شعوب المحيط القومي والاقليمي الضحية الثانية، بل تمتد هذه الخطورة لتصل الى دائرة السياسة الكونية، حيث يرتبط الكيان بتبعية مطلقة لأكثر القوى عدوانية وهمجية في عالمنا المعاصر المتمثلة في الامبريالية الامريكية ورأس مالها المعولم وحرية سوقها المتوحشة التي تلتهم خيرات شعوب اسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية.
امريكا هذه التي بدأت جرائمها بإبادة الهنود الحمر واستمرت بعبودية واضطهاد الزنوج الأفارقة وتأييدها للدكتاتوريات الأكثر دموية في امريكا الجنوبية على شاكلة سوموزا وباتيستا وبينوشي، وموبوتو في افريقيا، وماركوز في الفليبين وسوهارتو في إندونيسيا، والشاه البهلوي في ايران، … وغيرهم الكثيرين – كما ان ابادة 200000 قتيل و 150000 جريح اصابتهم دائمة في هيروشيما وناجازاكي باليابان. كما حرقت 200000 من المدنيين بالقنابل الفوسفورية في مدينة درزدن بألمانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية دون مبرر. أما عدوانها على شعب الفيتنام فقد اباد 4 ملايين قتيل ما عدا الجرحى والمعوقين. كما أبادت أكثر من 200000 انسان في امريكا الجنوبية ومئات الالاف في الفيلبين وأمريكا الوسطى والعراق وأفغانستان ودعمت الثورات المضادة بالمال والسلاح.
اما عن تأييدها لجرائم الكيان في بلادنا بالمال والسلاح والصواريخ والطائرات، وحمايته من العقوبة في مجلس الامن باستعمالها لحق النقض فهي معروفة للقاصي والداني من شعبنا وامتنا ومن كل أصدقائنا فلا داعي لتفصيل ذلك.
وليس هذا سوى غيض من فيض، فخطر امريكا راعية الكيان ونظامها المتوحش لا ينحصر في الحاقها الاذى بالإنسان، بل اتسع ليشمل افساد شروط الحياة بكليتها سواء تعلق الامر بالانسان او بالحيوان او بالنبات على حد سواء، وذلك من جراء اخلالها بالتوازن البيئي على سطح كوكبنا الأرضي، مياها ويابسة وما تحتها، فما زالت اميركا تمتنع عن توقيع المعاهدات التي تحد من الاحتباس الحراري وانبعاث الغازات المسببة في تهتيك طبقة الاوزون الواقية من خطر اشعة الشمس، وذلك حفاظا على ارباح شركاتها ومراكمة رأس مالها المعولم.
وهكذا يتبين لنا موقع الكيان في مُركب تناقضات عصرنا كذيل تابع لأكثر الوحوش ضراوة ومعاداة للإنسان وللحياة. فبعد ان تكوَن في رحم الامبراطورية البريطانية الاستعمارية وخرج من احشائها ورضع من حليبها، وترعرع في كنف انتدابها وتشرب افكار روادها المستوطنين في مستعمراتها، الذين زعموا بأنهم ذهبوا لتمدين الشعوب الهمجية هناك، انتقل بناة الكيان ليستظلوا بفيء خليفتها ووريث هيمنتها، الوحش الامريكي.
وعلى الصعيد الفكري لم يشذوا عن مسيرة المستوطنين الاوروبيين الاستعماريين الذين سبقوهم فكرا وممارسة، بل اقتفوا اثرهم في تزوير التاريخ واستحضار اسخف الاساطير الخيالية القديمة، وتحريف الكتب السماوية متلاعبين فيها لتحميل الالهة وزر جرائمهم في استعباد الشعوب الاصلية ونهب خيراتها وتدمير حضارتها. كما انشأوا منظومة من المفاهيم والمقولات المجردة عن سياقها التاريخي، وأضفوا عليها طابع القدسية والصلاحية لكل زمان ومكان منعا للعقل من مناقشتها، وإبعاد للوعي عن فهم كنه افعالهم. وبموجب ذلك انقلبت الحقائق رأسا على عقب.
– تزييف الوعي يبدأ بإبراز الأسطوري وإخفاء الواقعي
فأصبح الغزاة مبشرين بالأديان السماوية، وأصبح تدمير الشعوب الأصلية وحضارتها عملية تمدين وأصبحت أرضهم المسكونة منذ الاف السنين ارضا فارغة بلا شعب، تنتظر قدوم شعب اخر لا ارض له، يمتلك وعداً إلهيا قبليا ليقيم وطنه القومي فوق ربوعها. وبذلك اصبح الغزاة المستعمرون في بلادنا فلسطين شعب الله المختار، واصبحت ارضنا المستوطنة استعمارياً بقوة السلاح ارضاً موعودة، واصبحت عمليات نزع الارض عنوة من الفلاحين ومنعهم من العمل فيها وطردهم خارجها، واحلال المستوطنين المستعمرين مكانهم عليها، ليست سوى تطبيقاً لوعد الهي اسمه التهويد. واصبحت اشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي للمستوطنين تعطى اسماء اسطورية لاهوتية لا علاقة لها بأسلوب انتاجهم وعلاقتهم الاجتماعية التي تتطابق معه، ولا باسم الارض التي يقيمون عليها، بل نسبة لاسم اسطوري قديم هو إسرائيل، ذلك النعت الذي اطلق على يعقوب طبقاً للراوية الاسطورية، كما فعل مستوطنوا قارة امريكا الجنوبية، الذين اطلقوا عليها نعت الجنوبية نسبة الى لغتهم، وكما فعل مستوطنوا زمبابوي في افريقيا عندما اطلقوا اسم روديسيا عليها، نسبة الى مدير الشركة البريطانية التي تولت اقامة الاستعمار الاستيطاني فيها سيسيل رودس.
ونلاحظ هنا ان الاسم الاسطوري اللاهوتي الذي اعطي لكيان المستوطنين في فلسطين هو جزء من عملية تضليل للوعي هدفه صرف الانتباه عن عملية الاستعمار الاستيطاني وإخفائها بكاملها والتي تتضمن في الواقع عملية تغييب ثلاثية الابعاد تبدأ بتغييب تاريخ الارض الحقيقي الذي بدأ مع وجود الكنعانيين عليها واستبداله بتاريخ اخر يبدأ مع التوراة ثم ينتقل الى تغييب اسم الارض الاصلي بإعطائها اسما اسطوريا لاهوتيا مرجعيته التوراة وتنتهي بتغييب السكان الاصليين عن وعي المستوطنين قبل قدومهم اليها حيث اعتبرت ارض بلا شعب تمهيداً لقبول تغييبهم عنها في الممارسة بواسطة الابادة والتهجير خلال عملية تكوينهم فيها. كما يتضمن هذا الاسم طابعاً استاتيكيا (ثابتا) مقاوما لأي حركة او تغيير او تعايش مع الغير عليها، لان في ذلك التعايش مصدر الخطر عليه طبقا لاسطورة معاداة السامية. وبذلك يجري التأسيس في الوعي النظري، وفي الممارسة لاقامة نظام التمييز والفصل الإثني، والاستعباد لمن استطاع الصمود والبقاء من سكان فلسطين الاصليين.
ولذلك نعلن ان اخفاء عملية الاستعمار الاستيطاني الاحلالي وراء يافطة اليهودية تعني في الحقيقة تحميل كل جرائم المستوطنين ورعاتهم تجاه شعبنا ومحيطنا للديانة اليهودية التي
نعتبرها براء من هذا المشروع الاستعماري.
لقد نشأت الديانات السماوية الثلاث في منطقتنا وكانت أجزاءً متكاملة من مكونات الحياة الروحية لشعوب منطقتنا، التي لم تعرف الصراعات الدينية والمذهبية إلا خلال الغزوات الاجنبية وبتحريض من القوى الغازية على مر التاريخ. لقد عاش معتنقي الديانات الثلاث من شعوبنا على مر التاريخ وتكاملت معتقداتهم مع بعضها، وأغنت الحضارة الانسانية بشقيها المادي والروحي.
كما نوضح ان مفهوم المستوطن الاستعماري الاحلالي الوظيفي الانعزالي بالنسبة لنا لا ينحصر في وصف من استوطن في الاراضي الفلسطينية التي جري السيطرة عليها عام 1967م بل يشمل كل من أتى اليها مهاجراً بعد احتلالها العسكري من قبل بريطانيا عام 1917م والتي انتدبت فيما بعد عليها من قبل عصبة الأمم ، أداة الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، فهؤلاء المستوطنين جميعاً جزء عضوي من التكوين الاجتماعي الاستعماري الإحلالي الوظيفي المنغلق والمنعزل عن شعبنا الفلسطيني والمتناقض تناحرياً مع وجوده فوق أرض وطنه. ولذلك نؤكد أن عداء شعبنا لهذا التكوين الاستعماري الاصطناعي الغريب لا ينبع من تمايز ديانات أفراده عن ديانات أفراد شعبنا والتي تكونت تاريخياً من الديانات السماوية الثلاث (الإسلامية والمسيحية واليهودية) قبل قدوم المهاجرين الإستعماريين إلينا، بل ينبع من كيفية تكوينهم الاستعماري وخصائص ووظائف هذا التكوين لصانعيه ورعاته.
نحن نميز بين المستوطن الاستعماري الاحلالي كما جرى في أمريكا الشمالية (كندا والولايات المتحدة الأمريكية) وأستراليا ونيوزيلندا وبعض أقطار أمريكا الجنوبية والوسطى وبين المستوطن الاستغلالي كما جرى في جنوب أفريقيا والجزائر وزيمبابوي وأنغولا وموزامبيق وغيرها ، وبين المستوطن المتعايش بمساواة مع السكان الأصليين كما هو حال الأرمن في لبنان وسورية وفلسطين والشركس في الأردن ، وكما تمتع اليهود العرب تاريخياً بالمواطنة الكاملة في مصر وسورية واليمن والعراق والمغرب العربي وإيران وفي مختلف البلدان الأوروبية وغيرها.
لهذا فأننا نميز بين الاستيطان الاستعماري كعملية نزع ارض من اصحابها وإبادتهم واستعبادهم وبين الديانة اليهودية كمعتقد لتنظيم العلاقة بين معتنقيها وخالقهم من جهة، وبين البشر بعضهم ببعض من جهة اخرى على اسس من العدالة والاحترام المتبادل والعيش المشترك الامن. ونحن لا نماثل سياسياً بين يهود العالم، فهناك من يعيش منهم حياته الخاصة ويتعايش بسلام مع ابناء مجتمعه، ويمارس معتقداته وأسلوب حياته بعيداً عن التمييز والتمايز والحقد والكراهية والحلول محل الآخر. ونحن ندرك أن المشكلة اليهودية تكمن في توظيف الدين اليهودي لتحقيق المشروع الاستعماري الاستيطاني، لصالح قوى الهيمنة والسيطرة في العالم, بدءاً بنابليون مروراً ببريطانيا، ووصولاً للولايات المتحدة الامريكية.
وعليه نؤكد عدم وجود مشكلة بالنسبة لنا اسمها المشكلة اليهودية2 في فلسطين فهذه المشكلة نشأت في اوروبا الرأسمالية، والتي كانت تعني الخيار بين الاندماج وبين العزلة في المجتمعات الاوروبية. ولم تظهر هذه المشكلة يوما ما في بلادنا، ولذلك ليس المطروح عندنا حلا لمشكلة يهودية، بل ان المطروح امامنا والذي يتطلب حلا سريعا وجذريا هو مشكلة الاستعمار الاستيطاني الاحلالي في بلدنا فلسطين، والتي تأخذ شكل القاعدة الوظيفية للهيمنة الاجنبية على محيطنا القومي والاقليمي، وتشكل بؤرة للتوتر الدولي بحكم ارتباطها بالسياسة الامبريالية.
– حل المشاكل يتطلب إزالة أسباب نشوئها
ولما كانت الحلول لمشاكل بني الانسان تستخرج من واقعهم الموضوعي المتحرك وليس من الاوهام والاساطير الخيالية الثابتة في رؤوسهم المتحجرة أو تحت تأثير العواطف الذاتية والانفعالات العصبية، وحيث ان واقع القضية الفلسطينية الراهن يتكون من وجود استعمار استيطاني احلالي اتجاه الشعب الفلسطيني وقاعدة وظيفية للهيمنة الامبريالية على المحيط القومي والاقليمي، وبؤرة للتوتر والحروب العدوانية في السياسة الدولية الراهنة.
وبما ان كيان المستوطنين اصبح يسيطر على كل فلسطين الانتدابية ارضاً وسكاناً ويقيم عليها نظام فصل وتمييز إثني ويستعبد قوة عمل ساكني المعازل فيها منذ عام 1967. ونظراً لكون طبيعة الكيان المتسقة مع وظيفته قد وضعت كل فلسطين ارضاً وسكاناً ومحيطاً قومياً وإقليمياً في دوامة متواصلة من الحروب المدمرة والمجازر الدموية لإبقائها في حالة التبعية الخارجية المطلقة، وحيث تعارضت هذه الطبيعة جميع الحلول المؤدية لعودة الحقوق المشروعة الى أصحابها، وفي مقدمتها عودة اللاجئين الى ديارهم. وحيث تتنافر هذه الطبيعة مع شروط العيش المشترك الآمن لجميع سكان فلسطين واقامة الأسس لسلام عادل وشامل يؤمن لشعوب منطقتنا تعاوناً مشتركاً بديلاُ عن الكراهية والاقتتال، وينزع عن فلسطين صفة بؤرة التوتر الدولي، هذا من الناحية الاولى.
وحيث ثبت للمستوطنين بالملموس خلال قرن ونصف ان ارضنا التي استوطنوها لم تكن “بلا شعب” وليست خاليه من السكان كما اوهمتهم الصهيونية وصانعوها كما ان وجودهم عليها ليس اكثر امنا لهم من وجودهم السابق على الارض التي هاجروا منها، وان رسماً بيانياً لحركة امنهم على ارضنا يثبت بالقطع ان ما ينمو بالنسبة لهم هو قلة الأمن وليس المزيد منه، وذلك بسبب الطبيعة العدوانية لوجودهم على شعبنا المدفوع بحكم غريزة حب البقاء للدفاع عن وجوده فوق ارض وطنه الامر الذي يشكل اساساً موضوعياً لتصاعد مقاومته وليس الى هبوطها.
وبما ان طريقة تكوين تجمع المستوطنين اصطناعياُ جعلت منهم اداة لاضطهاد شعبنا لذلك انطبقت عليهم المقولة الشهيرة ( ان شعبا يضطهد شعباً اخر لا يمكن ان يكون هو نفسه حراً) مع التحفظ على كلمة “الشعب” هنا. وملاحظين ان الفشل الذي اصاب كل الحلول التي اقترحت لمعالجة القضية الفلسطينية ومتفرعاتها تعود الى اقتصارها على نتائج سياسات الكيان وتجاهلها للأسباب الحقيقية المولدة لها المتمثلة في طبيعة بنيته ووظيفتها وبعلاقاتها مع شعبنا الفلسطيني ومحيطه القومي والاقليمي وبمراكز الهيمنة العالمية.
لذلك نعلن ان الكيان الاستعماري الاستيطاني الإحلالي ورعاته الامبرياليين قد أوصلوا سكان فلسطين الأصليين منهم والمستوطنين وشعوب محيطهم القومي والاقليمي الى منعطف تاريخي بلغت التناقضات التناحرية فيه درجة من التعارض لم تعد تسمح بتعايشها مع بعضها البعض ضمن الوحدة القائمة الا على اساس التدمير المتبادل والانتحار الجماعي الحاصل يومياً.
لقد اصبح الوضع الراهن من الخطورة على حياة سكان فلسطين ومحيطهم القومي والاقليمي بمكان لم يعد يسمح لهم بمواصلة دفن الرؤوس في الرمال، حيث يمتلك الكيان جميع انواع اسلحة الدمار الشامل، الامر الذي يدفع ضحاياه ، محليين وإقليميين ، بالضرورة الى محاولات امتلاك نفس الاسلحة للدفاع عن وجودهم فوق أرض اوطانهم واستعادة حقوقهم ودفع عجلة تطور مجتمعاتهم الى الامام التحاقاً بمسيرة البشرية المتسارعة في تطورها الاجتماعي والعلمي والاقتصادي والتقني.
ان التاريخ يضع شعوبنا اليوم امام ضرورة الاختيار بين مواصلة السير على طريق التدمير الشامل المتبادل بما يعنيه من انتحار جماعي وبين تحويل وجهة سيرنا نحو طريق الحياة المشتركة المتساوية والمستقبل الآمن لنا جميعاً، كما ان مصلحتنا الجماعية تفرض علينا واجب التخلص من هذه العلاقات اللانسانية التي ورثناها عن الحقبة الاستعمارية والقائها في مزبلة التاريخ، حيث تتعفن هنالك الكثير من علاقات التمييز والعبودية السابقة للافارقة السود في مزارع المستوطنين البيض الاوروبيين في امريكا الشمالية والجنوبية والوسطى، وعلاقة الابادة التي فرضها المستوطنون على الشعوب الاصلية في استراليا والأمريكيتين، وعلاقات التمييز والفصل العنصري “الابارتهايد” في جنوب افريقيا، والعلاقات النازية التي فرضها هتلر على شعوب اوروبا الشرقية والوسطى والغربية خلال حربه العدوانية التي حصدت ارواح ما يقارب خمسين مليون انسان بين مدني وعسكري.
نعم انها لمسؤولية عظيمة وشاقة ولكنها في نفس الوقت مشرفة لمواطنينا ولشعوب المنطقة ولكل الشرفاء في العالم الذين يساهمون معنا في التخلص مما فرضه علينا الامبرياليون وخدمهم من علاقات الابادة والتمييز والإحلال لخدمة مصالحهم الأنانية.
نحن سكان فلسطين التاريخية، مطالبون اليوم بان نهدم بايدينا جماعياً شروط فنائنا الجماعي ونقيم بالكفاح المشترك على انقاضها شروط بقائنا الجماعي على قيد الحياة ككل متكامل ومتساو بعيداً عن الفصل والانفصال والتمييز العنصري والنفي المتبادل للاخر.
لقد علمتنا تجربة الصراع الدامي خلال قرن من الزمن ضرورة نبذ الاعتقاد الزائف بامكانية الوصول الى حلول عادلة ومنصفة لجميع ذوي الحقوق المشروعة مع بقاء البنية الحالية التي اصبحت قديمة لصراع المتناقضات على ارض فلسطين التاريخية ومحيطها، التي تمخضت عن عملية الاستعمار الاستيطاني.
ان مصلحتنا في الحياة المشتركة تفرض علينا ضرورة تجاوز القديم الذي شاخ وهرم وولى زمانه والانتقال بالنضال المشترك الى مولود جديد اكثر تقدماً وأهلية لخلق علاقات انسانية لنا جميعاً.
انه مشروع مستقبلي لكفاح مشترك بجميع الوسائل نبني بواسطته مستقبلاً يكون كما نصنعه نحن بأيدينا وعقولنا لمصلحتنا الجماعية المشتركة، انه تغيير جذري وليس اصلاح سطحي لبنية الصراع الموروثة عن القديم الاستعماري المهترىء.
فالحقائق الملموسة الراهنة على أرض فلسطين التاريخية تؤكد ان سكانها اليوم اصليين ومستوطنين، ككائنات حية، يشكلون كلاً واحداً من حيث مصلحتهم الموضوعية في البقاء على قيد الحياة، ولا يغير من ذلك كون النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي فيها يقوم على الفصل والتمييز العنصري وسيطرة كيان المستوطنين على ارضها وشعبها الاصلي الفلسطيني.
ان عدم التجانس الذي اقامه الكيان الاستيطاني بين مصالح وحقوق طرفي التناقض الاساسي قد جرفهم نحو الانتحار الجماعي الذي يتوجب وقفه بترقية علاقة الطرفين وليس بإنهائها عبر النفي المتبادل بينهما. وتعلمنا أحداث التاريخ وتجارب الأمم ان افضل الطرق للتخلص من الحروب والتدمير المتبادل هو إلغاء الواقع الذي يفرز تلك الحروب ويتطلب استمرار ذلك التدمير المتبادل. وفي حالتنا نحن على أرض فلسطين فان هذا الواقع الذي يتطلب منا الغاءه يتمثل في بنية الكيان الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية ضد شعبنا ووظيفته الهيمنية على محيطنا القومي والإقليمي، فالحل الجذري يكمن في تفكيك تلك البنية المغلقة واستبدالها ببنية منفتحة على كامل التراب الفلسطيني التاريخ اكثر تقدماً وإنسانية وعديمة الوظيفة الإمبرالية، وما عدى ذلك ستبقى أسباب الحروب والتدمير المتبادل قائمة مع امكانات تصاعدها حيناً وهبوطها حيناً اخر طالما بقيت جذورها ضاربة في أعماق بنية الواقع الذي يتضمنها.
فتفكيك بنية الكيان وما يتبعه من ضرورة إلغاء علاقة التلازم الشرطي بين طبيعة تلك البنية ووظيفتها هو مفتاح الحل العادل والدائم للصراع في الشرق الاوسط باللغة الدبلوماسية للدول والحل العادل للقضية الفلسطينية بلغة حركة التحرر والوحدة العربية.
ان ادراكنا لكون الحياة الاجتماعية للبشر تتكون من علاقتين أساسيتين: الاولى علاقة الانسان بالطبيعة “الارض” والثانية علاقة الانسان بالإنسان “علاقة الناس ببعضهم“، دفعتنا للتدقيق في الحلول المقترحة للقضية الفلسطينية والتي كانت وما تزال موضوعاً للمفاوضات العبثية فوجدنا انها تركز على العلاقة الكمية للناس (علاقة الانسان بالطبيعة) أي علاقة الانسان بالأرض ونسبة تملكهم لها وتهمل علاقة الناس الكيفية ببعضهم البعض أي علاقة الانسان بالإنسان الآخر على ارض فلسطين ومحيطها وتجعلها خارج الحلول المطروحة وبالتالي خارج المفاوضات.
ونحن اذ ننطلق من وعينا العلمي للترابط الضروري بين الكم والكيف في حركة تطور وتغير البنى الفيزيائية والاجتماعية في هذا الكون الذي نحن جزءاً عضوياً منه نؤكد اصرارنا على ان يتضمن الحل لقضيتنا الوطنية الجانب الكيفي في المقام الاول الى جوار الجانب الكمي وعدم القبول بأي فصل تعسفي بينهما ، وذلك بإلغاء الكيف القديم للعلاقة بين الانسان والإنسان على ارض فلسطين التاريخية أي بين السكان الفلسطينيين الاصليين والسكان المهاجرين المستوطنين الاستعماريين ، ذلك الكيف المتمثل في العلاقات الاستعمارية الاستيطانية الاحلالية وعلاقات الفصل وإنشاء الكيف الجديد للعلاقة التي تقوم على المشاركة الحرة والمساواة والاتحاد وصولاً الى الانفكاك من التبعية للهيمنة الامبريالية.
– مكمن الحل العادل الراهن لقضيتنا
فضرورة التغيير الجذري لبنية الصراع التي اصبحت قديمة ليست وليدة رغبة هذا المفكر او ذاك او تحقيقاً لأمنية أناس ذوي نوايا حسنة بل تعبيراً عن حاجة تولدها حركة مُقنوَنة لصراع المتناقضات ضمن وحدة بات فيها الانتقال من التراكمات الكمية الى التغيرات النوعية حتمية يتطلبها الخروج من حالة الانتحار الجماعي والدخول الى حالة التعايش الجماعي بالنضال المشترك. انها لحظة الانتقال من كيف قديم متعفن آخذ في الاحتضار الى كيف جديد نقي آخذ في الولادة، نسميه دولة فلسطين الديمقراطية الشعبية التقدمية على عموم ارض فلسطين التاريخية ، دولة لكل من يعيش عليها ولمن أخرج منها بالقوة القاهرة عام 1948 ، وأحفادهم الذين يشكلون جزءاً عضوياً من المكونات السكانية “الديمغرافية” لفلسطين التاريخية، هؤلاء المهجرين المالكين للحق الوضعي “قرار 194″ وللحقين الطبيعي والتاريخي للعودة الى ارض وطنهم وممتلكاتهم والتعويض لهم عن الخسارة بسبب غيابهم القسري واستغلال المستوطنين لممتلكاتهم، انها لحظة القطع مع الماضي الاستعماري الهمجي ولحظة الوصل مع المستقبل التحرري الانساني.
نعم انها لحظة استبدال علاقات قديمة ذات طبيعة استعمارية عنصرية إحلالية بعلاقات جديدة طبيعية ديمقراطية تقدمية تقوم على العيش المشترك والمساواة في الحقوق والواجبات المدنية لمواطنين احرار حقاً في دولة من نمط جديد منزوعة التمييز والفصل العنصري بسبب الاصل الاثني او اللون او اللغة او الانتماء الديني والسياسي والحضاري في دولة تحرم الدعاية للتمييز والفصل العنصري وبث ثقافة الكراهية والحقد والعداء ، دولة تنتقل بفلسطين من العداء على محيطها الى الصداقة والتعاون لمصلحة تقدم وتطور وأمن شعوبه.
اننا على ثقة بان الذين سينجزون بنضالهم هذا الهدف الانساني العظيم من سكان فلسطين التاريخية بمساعدة وتضامن احرار المحيط العربي والاقليمي والعالم اجمع سوف يكونون على مستوى من المعرفة والحس الانساني السليم الذي يمكنهم من صياغة علاقات حقوقية وسياسية متقدمة تفتح المجال لتطورهم المشترك نحو مستقبل مشرق يثريه تلاقح خصوصيات جماعاته المتعايشة جنباً الى جنب بعد ان كانت متنافية تناحرياً يحل بعضهما محل بعض.
– انه لهدف صعب التحقيق لكنه انساني نبيل يستحق التضحية
ومتى كانت القفزات النوعية في التاريخ تحدث من تلقاء نفسها ؟ ومتى حدث ان تنازل الظالمون عن ظلمهم طوعاً للمظلومين؟ ومتى تقاعس الاحرار في التاريخ الانساني عن دفع ضريبة الحرية التي لم تقدم لهم يوماً على طبق من ذهب؟
ان كفاحنا لتغيير واقعنا هو جزء عضوي من صيرورة الكون الذي نعيش فيه بشقيه الفيزيائي والحيوي الاجتماعي الذي لا يتألف من أشياء وظواهر منجزة التكوين وتوقفت عن الحركة والتغيير، بل يتألف من عمليات تنشأ خلالها الأشياء والظواهر وتطور ثم تتغير.
نعم لا ثبوت في هذا الكون المتحرك للأشياء والظواهر عند نقطة معينة بل هي في حركة مقنونة دائمة من التكون والتطور ثم التغير النسبي نحو الأرقى.
لقد اندثر كل الذين حاولوا عبثاً وقف حركة التغيير التقدمي في التاريخ الإنساني حاملين معه لعنة الأجيال اللاحقة. وبذلك تتأكد رؤيتنا العلمية لوجود كيان المستوطنين على أنه عابر ومؤقت وسائر إلى الزوال لا محالة، لكون هذا الوجود ليس استثنائاً في التاريخ الإنساني.
ولذلك كله نؤمن وندعو ونقاوم مع شعبنا وقوى التحرر القومية والإقليمية والعالمية لإنجاز هذا التغيير الذي لن يحدث من تلقاء نفسه ، بل بواسطة تصعيد كفاحنا الضاري ومقاومتنا بجميع أشكالها المؤدية إلى إحداث تغيير في ميزان القوة بحيث يصبح تحقيق أمن المستوطنين بعد التحرير مشروطاً بتجريدهم من وضعهم الإستعماري الإحلالي وسماتهم الانعزالية الانفصالية وحرمانهم القانوني من الترويج لثقافة الاستعلاء والكراهية والحقد على الغير ، وخاصة على شركائهم في المواطنة المتساوية ، السكان الفلسطينيين (الأصليين) ، وإلغاء كل حالات التمييز والتمايز عن الآخرين في الحقوق والواجبات وفك الارتباط مع الهيمنة الامبريالية والرجعية الإقليمية. إن وضعاً كهذا سوف يساعد شعبنا على نيله لجميع حقوقه المتساوية مع حقوق كل من يقيم على كامل تراب فلسطين الانتدابية الموحدة ، وعودة اللاجئين إلى وطنهم واستعادة أراضيهم التي استولى عليها المستوطنون وتعويضهم عن الخسائر التي لحقت بهم وبممتلكاتهم خلال فترة تغييبهم القسري عنها ، كما سيحول فلسطين من بؤرة للتوسع والعدوان المتواصل على محيطها إلى واحة للحرية والصداقة والتكامل الإيجابي مع كل المحيط القومي والإقليمي.
ونظرا لما يجري اليوم على أرض فلسطين التاريخية من تصعيد لهمجية الكيان الاستيطاني وبربريته وإيغاله في القتل والتدمير الممنهجين لجميع نواحي حياة شعبنا المادية والروحية مستخدمين في ذلك أحدث الأسلحة الفتاكة ، فإن القوى الحية في شعبنا وعلى رأسها الشبيبة المنتفضة لا تملك إلا أن تتصدى وتقاوم أجهزة الكيان وعصابات مستوطنيه فيما تمتلكه من أبسط الأدوات (الحجر والسكين) وبالصدور العارية بحيث يرتفع لديها يوماً بعد يوم منسوب الشجاعة والتضحية ، محققة البطولات على كامل تراب فلسطين متجاوزة بذلك حدود اتفاقيات الإذعان والاستسلام. وفي هذا إشارة إلى وجود تبلور جديد متسارع في المواقف والأفعال لدى شبيبتنا بما يتماشى مع ما يجري من استقطاب للقوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية الحاصل الآن محلياً وقومياً وإقليمياً وعالمياً ينعكس ذلك في الصراعات العنيفة المحتدمة حالياً فيما بينها طبقاً لمصالحها وخاصة في وطننا العربي.
أما بالنسبة للقيادة الفلسطينية المتنفذة تعسفاً واغتصاباً فقد واصلت السير في خياراتها الأنانية الخاصة بها المتعارضة مع مصالح شعبنا في التحرر والمساواة وبناء الدولة الديمقراطية الشعبية التقدمية على كامل ترابنا الوطني التاريخي من خلال إيغالها في التموضع ضمن القطب الامبريالي الرجعي وتوابعه واستمرار تمسكها بالاتفاقات الاستسلامية مع العدو ومخرجاتها السلطوية القهرية لشعبنا والتنسيقية مع أجهزة العدو لحفظ أمنه. كما واصلت ارتباطها بالرباعية الدولية تحت قيادة طوني بلير الأكثر إخلاصاً في تمثيل مصالح الامبريالية الجماعية (أوروبا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية) ورأسمالها المعولم.
وسيثبت المستقبل كما أثبت الماضي أن القيادة الفلسطينية التي اختارت التموضع كذيل تابع في القطب الامبريالي الرجعي العربي إنما تسير معه إلى الزوال في مزبلة التاريخ. وإلا كيف نفسر وقوفها المعلن الأخير بالفم الملآن إلى جانب الرجعية السعودية الأكثر تبعية وتخلفاً ودعماً بالمال وبالسلاح لعصابات التكفير الظلامية التي تقتل وتدمر بهمجية ووحشية لا نظير لها في سورية والعراق وغيرها من الأقطار العربية الأخرى ، في حين يعالج جرحاها في مستشفيات جيش المستوطنين.
وهنا نتساءل أي مصلحة لتحرر شعبنا الفلسطيني من العدوان السعودي على الشعب العربي في اليمن الشقيق وتدمير بنيته التحتية كدولة وكشعب وكنوز الحضارة التي بنتها أيادي الأجيال العربية السابقة في مأرب وبين النهرين وتدمر وغيرها ؟ وأين هي طائرات السعودية وصواريخها وقنابلها العنقودية مما يجري في فلسطين وخاصة في القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك ؟
ومقابل ذلك سيثبت المستقبل أيضاً أن القوى الحية الوطنية حقاً، وعلى رأسها شبيبتنا المنتفضة ، التي اختارت التعبير عن المصالح العليا العامة لشعبنا قد تموضعت (بخلاف القيادة) ضمن القطب المناهض للمعسكر الإستعماري الرجعي من خلال تصديها الشجاع المتصاعد ضد إرهاب الكيان الاستيطاني الاستعماري ووحشية أدواته التدميرية ، مسترشدة بقانون الدفاع الشرعي عن النفس وحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها ، وبذلك فهي سائرة مع هذا القطب النقيض (للأول) إلى المستقبل المشرق لشعبنا ولكل الشعوب المظلومة المكافحة من اجل الحرية والتقدم في العالم أجمع. فهذه سنن التطور المحكوم بصراع المتناقضات بين القديم السائر الى الزوال والجديد الآخذ في النمو والازدهار. وبناء على ما تقدم يصبح واضحاً ان اختلاف مواقع تموضع كل من الفريقين المذكورين أعلاه في الساحة الفلسطينية هو منبع اختلاف المواقف الفكرية والسياسية وبالتالي الممارسة العملية بينهما على أرض الواقع في فلسطين التاريخية ومحيطها القومي والإقليمي والعالمي.
وبهذه المقاربة العلمية لبنية وصراع المتناقضات ومصالح القوى المنخرطة فيه والاتجاه العام لحركة سيره نحو المستقبل ، تصبح النظرة لتركيب ميزان القوى لا تقتصر على حركة أطرافه المحليين داخل فلسطين فحسب بل تتعداه وصولاً إلى الأطراف الإقليمية والدولية بحكم الترابط العضوي والتأثيرات المتبادلة بين مصالح هذه الأطراف كافة. ومع نشوء وتعاظم قوة المقاومات الشعبية داخل فلسطين ومحيطها وتطور قوة بعض الدول الإقليمية المتحررة ، أخذ ميزان القوة يفقد رجحانه لصالح العدو شيئاً فشيئاً إلى أن وصل إلى وضع الميلان لصالح قوى التحرر والانعتاق من الهيمنة ، حيث تأكد ذلك خلال حروب الكيان العدوانية المتكررة على لبنان وغزة ابتداء بعام 2006 وما بعدها. ونتيجة لذلك نشأ في منطقتنا ما يعرف ب (جبهة المقاومة والممانعة).
سياسة الاستقطاب الرأسمالية الكونية والحرب على سورية
ونظراً لكون هذا الوضع الناشيء الذي يتعارض مع السياسة الكونية للثالوث الرأسمالي الأكثر تطوراً في العالم ، الأوروبي الياباني بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية الذي استطاع رأسمالهم المعولم نهب ثروات العالم والسيطرة على 80% من اقتصاده في حين ان سكانه لا يتجاوزون العشرين بالمئة من سكان العالم. كما احتكر ملكية التقنية العالية التطور كبرامج المعلوماتية والتقنية النووية وأسلحتها وشبكة الاتصالات العالمية (الإنترنت) وحركة التدفقات المالية عبر العالم ومصادر الثروة الطبيعية العالمية وخاصة مصادر الطاقة النفطية والغازية. كما استفاد من انهيار الاتحاد السوفييتي فبسط نفوذه على أوروبا الشرقية وفتت وحدة يوغوسلافيا بالعدوان المسلح عليها. كما قام بالاحتلال العسكري للعراق وأفغانستان وليبيا التي تفتت هي الأخرى وانتشرت فيها عصابات الاجرام والتكفير الظلامية مستولية على أسلحة النظام السابق ونشره من خلال جماعاتها المتعددة في المحيطين الأفريقي والشرق أوسطي.
إضافة إلى أن هذا الثالوث كان قد أقام استقطاباً ثنائياً حاداً بين الغنى والفقر على الصعيد العالمي ضمن فيه لقطبه نسبة تعادل 60 مقابل 1 للقطب الآخر الأكثر فقراً والذي يتراوح عدد سكانه 80% من سكان العالم كما أشرنا سابقاً أعلاه.
أما المنظمات والمؤسسات الدولية فلم تفلت من سيطرة الثالوث الامبريالي عليها وتعطيل عمل مؤسساتها وتجاوز الالتزام بمواثيقها مستعيضاً عنها في ذلك بأداته العسكرية العدوانية ، حلف شمال الأطلسي ، الذي تجاوزت صلاحياته حدوده الإقليمية وأصبحت عالمية فتمدد شرقاً بواسطة أحد أعضائه ، تركيا ، إلى نهاية حدوده المتاخمة لشمال الجمهورية العربية السورية ، والتي كانت حكومتها قد رفضت الانخراط في مشروع الشرق الأوسط الجديد المنوي إقامته والتابع عملياً لسيطرة ذلك الحلف. وليس من قبيل الصدفة أن توافق الموقف السوري هذا مع الموقف الإيراني الذي كان قد تعرض هو الآخر للمقاطعة والعقوبات من قبل الدول الإمبريالية بسبب مواقفه التحررية والممانعة لسياسة تلك الدول الإلحاقية ، والمعبر عنه باللقاء الثلاثي نجاد والأسد ونصر الله.
وبحكم موقع سورية الجغرافي المتاخم لتركيا فإن موقفها السياسي الاستقلالي شكل عقبة كأداء أمام تمدد حلف الأطلسي جنوباً وبذلك أعاق بسط سيطرته على كامل الشرق الأوسط وثرواته وخاصة النفطية منها والغازية ، وجغرافيته المناسبة جداً لتقريب وتسهيل وتقليل نفقات نقل تلك الثروات بالأنابيب إلى أوروبا.
وبناءاً على ما تقدم أصبح استبدال النظام الوطني الممانع في سورية بنظام آخر يلتحق بركب السياسة الإمبريالية أو تفتيتها مسألة غير قابلة للتأجيل. لهذا دعت أمريكا أتباعها في الشرق الأوسط والعالم إلى عقد مؤتمر دولي في تركيا ، تحت مسمى “أصدقاء سورية” تزييفاً ، راوح عددهم 140 دولة حيث أقروا التدخل العسكري في سورية وأخذوا بتجميع وتدريب وتسليح عشرات الآلاف من أكثر الناس تخلفاً ورجعية وظلامية وهمجية. وزادوا في شحنهم بمشاعر الحقد والكراهية لكل ما هو إنساني وعقلاني في العالم ، وعبئوا رؤوسهم بالأساطير الدينية المزيفة والمذهبية الوهابية التكفيرية. وزجوا بهم داخل الجغرافيا السورية متكاملين في تخريبهم مع الرجعية الداخلية السورية. كما أخذت الدول الرجعية النفطية في الخليج بمد هذه الجماعات بالمال والسلاح والفضائيات الإعلامية. أما تركيا الأطلسية الإسلاموية فقد اضطلعت بدور رئيسي مميز وحاسم في دعم هذه الجماعات من خلال التدريب والتسليح وفتح حدودها المتاخمة لسورية ، التي أخضعت مصانعها في حلب ومحيطها للتفكيك والنقل وبترولها المسروق مع مخزون آثارها التاريخية عبر الحدود التركية ، هذه التي أعلنت عن مطامعها التوسعية في سورية التي أصبحت مسرحاً لحرب عالمية ثالثة بالمعنى الحقيقي للكلمة.
إلا أن سورية المستقلة وطنياً والممانعة إمبريالياً استطاعت بواسطة جيشها العربي عقائدياً وشعبها القومي الأصيل وقيادتها الحكيمة الصلبة الصمود وصد العدوان وإفشال أهدافه مدة من الزمن تقارب الخمس سنوات وهو ما يعادل مدة الحرب العالمية الثانية. كما أن موقف المقاومة اللبنانية الداعم والمشارك إلى جانب الجمهورية الإيرانية وروسيا الاتحادية له دور عظيم في هذا الصمود الأسطوري الذي سيسجل في الصفحات الناصعة للتاريخ في المستقبل.
الأزمة الاقتصادية البنيوية في النظام الرأسمالي العالمي وتداعياتها الإقليمية
وإذا استحضرنا إلى هذا المشهد الذي نحن بصدد رسم خطوطه ، نجاح المقاومة اللبنانية في تعطيل وظيفة كيان المستوطنين الإقليمية في شمال فلسطين المحتلة لصالح رعاته عام 2006 ، والمقاومة الفلسطينية في جنوبها ، وانتصار المقاومة الشعبية على قوات الغزو الإمبريالي عسكرياً في العراق الشقيق ، مضافاً إلى ذلك اندلاع المقاومة الشعبية الباسلة في اليمن الشقيق ضد حرب التدخل والعدوان الصهيو – رجعي ـ عربي بإشراف أمريكي بيافطة سوداوية سعودية قاتمة ، لوجدنا أن هذا الصراع المتفجر محلياً وإقليمياً يتمفصل موضوعياً على ما يجري في عالمنا الراهن ، حيث اندلعت أزمة اقتصادية جذرية عميقة في مراكز الثالوث الرأسمالي العالمي مبتدئة برأسه الأمريكي الذي انهارت مؤسساته المالية العملاقة المتخصصة بتسليفات الرهن العقاري في شباط فبراير 2007 أولاً ، ثم تتابع مسلسل الانهيارات والإفلاسات وشمل أضخم المصارف ، التي بلغ عددها عام 2009 ما يقارب 115 مصرفاً ، وشركات التأمين العملاقة ، وعدد كبير من الشركات المتعددة الجنسيات ، الأمر الذي اضطر حكومة الولايات المتحدة الأمريكية إلى دعم تلك المؤسسات بما يقارب 23 ترليون دولار كتكاليف لإنقاذها من جيوب دافعي الضرائب وصناديق التقاعد.
كما انتشرت الأزمة في العالم أجمع وخاصة في الدول الصناعية ، والتي تحولت لاحقاً إلى أزمة بنيوية لمجمل النظام الرأسمالي العالمي تمظهرت في ارتفاع عجز الموازنات الحكومية وتضخم الدين العام لأغنى عشرين دولة بحيث ارتفع من 31.620 ترليون دولار وهو ما يعادل %66 من الناتج المحلي الإجمالي لتلك الدول إلى ما يزيد عن 40 ترليون دولار وهو ما يعادل 84% من الناتج الإجمالي لتلك الدول.
أما في الولايات المتحدة المعقل الرئيسي للرأسمالية العالمية فقد تجاوزت نفقاتها أكثر مما تنتج ب 600 مليار دولار أي 6% عام 2010 ودينها العام اقترب من 119% من ناتجها الإجمالي العام ، كما أن العجز في ميزانيتها قد بلغ 11.2% من ناتجها الإجمالي وبلغت نفقات الدفاع عام 2011 حوالي 768 مليار ، الأمر الذي دفع أحد قادة القوات العسكرية السابقين للقول: ( إن أكبر خطر يواجه الأمن القومي الأمريكي هو العجز في الميزانية والدين العام لكون ذلك يؤثر على قدرة الولايات المتحدة على الهيمنة العسكرية على العالم). وهنا يجدر الإشارة أن الامبراطورية الاسبانية والبرتغالية والفرنسية والبريطانية قد انهارت عندما أصبح إجمالي نفقاتها أكثر من انتاجها مما أدى إلى تراكم ديونها وعدم قدرتها على سدادها فأفلست ثم انهارت.
أما أوروبا ، وهي المعقل الثاني للراسمالية العالمية ، فقد تجاوزت الانهيارات والإفلاسات نطاق المؤسسات المالية والاقتصادية الخاصة بحيث شملت الدول. فأعلنت اليونان عن إفلاسها وتقترب إيرلندا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا من ذلك المصير ، كما تراجعت مقدرة بريطانيا وفرنسا على الاستمرار في تقديم الخدمات الاجتماعية حسب مستوياتها السابقة.
أما بالنسبة لحرية السوق الرأسمالية المتوحشة وعولمة الرأسمال بواسطة الشركات المتعددة الجنسية التي حققت خلال العقود الثلاث الأخيرة (قبل الأزمة الاقتصادية) ازدهاراً كبيراً وأرباحاً طائلة من وراء استثماراتها في جميع أنحاء العالم من خلال حرية تبادل منتجاتها وانتقال رؤوس أموالها دون رسوم جمركية ، فبلغت أرباحها 16 ترليون دولار ، وهو ما يزيد على حجم التجارة الخارجية العالمية. إلا أن هذه الشركات قد تأثرت جدياً بالأزمة المالية والاقتصادية العالمية فتعرضت هي الأخرى من حيث المصالح والبنية للانهيار والافلاس وأجبرت على إغلاق معظم فروعها في بلدان الانتشار واضطرت للرجوع إلى كنف بلدانها الأم طلباً لمساعدة حكوماتها أسوة بالمؤسسات والمصارف الأخرى المنهارة والمفلسة.
كما أن اليابان ، المعقل الثالث للرأسمالية العالمية لم يسلم من هذه الأزمة العالمية. وعلى سبيل المثال وليس الحصر فقد أعلنت أكبر 33 شركة عن إفلاسها وتضاعف دينها العام إلى 200%.
إن التاريخ الإنساني عبر مراحله المختلفة يؤكد الترابط العضوي بين الاقتصاد والسياسة بحيث كان يتمخض عن كل أزمة اقتصادية ارتفاع كفاح الكادحين ضد مستغليهم من جهة وتصاعد القمع الفاشي وصولاً للحروب العدوانية على الكادحين من جهة أخرى. وعلى سبيل المثال وليس الحصر فإن الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 1929 أدت إلى صعود النازية في ألمانيا ووصول هتلر إلى سدة الحكم والفاشية في إيطاليا ووصول موسوليني إلى السلطة والفاشية التوسعية اليابانية في جنوب شرق آسيا. وقد تحالفت هذه القوى الثلاث للإطاحة بهيمنة القوى الاستعمارية التقليدية على العالم والحلول مكانها فأعلنت الحرب العالمية الثانية التي كانت نتيجتها مدمرة على الإنسانية مادياً وبشرياً. إلا أن نتائجها لم تكن لصالح من أعلنها بل نشأ عنها استقطاب ثنائي عالمي للقوة ساعد على صعود حركات التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية التي حققت انفصال أقطارها عن السلطة الاستعمارية التقليدية والتي نشأ على أثرها حركة عدم الانحياز.
وهكذا نرى أن الحرب العدوانية الوحشية على العراق وليبيا وسورية واليمن ليست مجرد مؤامرة كما يصورها البعض بل هي نتيجة حتمية لمصلحة الثالوث الإمبريالي التقليدي في الحفاظ على سيطرته وتعميقها ومواصلة نهب خيرات الشعوب ومنع تحررها بعد أزمته الاقتصادية البنيوية المزمنة ولمنع وصول أمم كبيرة مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل أو أي تحالف إقليمي في العالم إلى وضع شريك فاعل في تشكيل نظام عالمي جديد حتى لو كان رأسمالياً.
هذا هو الوجه الأول باختصار شديد من المشهد الاقتصادي الاجتماعي السياسي العالمي المتمثل في المراكز الثلاث التقليدية الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي استحوذت على نسبة 80% من الثروة والانتاج العالمي في العقدين الأخيرين من القرن العشرين ، في حين أن سكانها الأكثر غنى لا يبلغون أكثر من 20% من سكان العالم ما أدى إلى زيادة مضطردة في نسبة اللامساواة في مستوى المعيشة والحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لصالحها. ففي حين كانت هذه النسبة في عام 1800 (1 مقابل 2 ) ارتفعت عام 1900 إلى (1 مقابل 20) ثم ارتفعت عام 1945 إلى (1 مقابل 30) وفي مرحلة نمو ما بعد الحرب العالمية الثانية ارتفعت إلى (1 مقابل 60) أما اليوم فتبلغ هذه النسبة أرقاماً خيالية. والسبب في ذلك يعود إلى أن الرأسمالية منذ بدايتها كانت وما زالت استقطابية بين الغنى الفاحش للأقلية والفقر المدقع للأكثرية الساحقة من سكان كرتنا الأرضية. فتاريخ الرأسمالية الحقيقي أثبت صحة فعل قانون التطور الغير متوازي (غير متكافىء) الذي تحكم وما يزال في حركة نموها وتوسعها. لذلك فعملية الاستقطاب فيها لم تنشأ لمرة واحدة وإلى الأبد بل تتغير باستمرار تحت تأثير فعل قانونها الأساسي هذا.
مجموعة البريكس وتأثيرها على الاقتصاد السياسي العالمي
أما الوجه الثاني للمشهد الاقتصادي الاجتماعي السياسي العالمي فلم يتكون خارج تأثير فعل هذا القانون بل جزء عضوي من المخرجات التي أفرزتها التناقضات المرتبطة بفعله. فالرأسمالية المفطورة على التوسع وحروب العدوان لتحقيق المزيد من الأرباح والتي تنخرها الأزمات الاقتصادية الدورية، السطحية الآنية منها والعميقة ذات البعد التاريخي ، تخضع باستمرار لعمليات إعادة إنتاج الاستقطاب من جديد. وفي هذا السياق يقع الاستقطاب الثنائي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية وما ترتب عليه من تصاعد في حركات التحرر الوطني التي أنجزت الاستقلال عن الاستعمار القديم في كل من آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية. فنشأت في بعضها دول فتية وازنة جغرافياً وديموغرافياً حققت فيما بعد نسب نمو مرتفعة رغم محاولات الثلاثية الامبريالية عرقلة ذلك. وفي طليعة هذه الدول الفتية الصاعدة تقف الصين والهند والبرازيل وروسيا الاتحادية بعد تجاوزها آثار تفكك الاتحاد السوفييتي ، وجنوب أفريقيا ، أصبح يطلق عليها مجتمعة مصطلح (البريكس). ويشير المشهد الاقتصادي العالمي إلى أن انتاج هذه الدول يشكل ثلث الناتج الإجمالي العالمي كما أنها تمتلك أكثر من خمسة ترليون دولار إحتياطي من العملات الأجنبية ، إضافة إلى أنها أقل اعتماداً على القروض الأجنبية. وأن لديها حالات عجز أقل في الحساب الجاري مما هو عليه الحال في البلدان الرأسمالية التقليدية المعروفة ، وتملك أكبر نسبة نمو اقتصادي في العالم. وكان أول لقاء بين زعماء هذه المجموعة عام 2008 على هامش لقاء قمة الثمان في جزيرة هوكايدو اليابانية. إلا أن الاجتماع التأسيسي الأول لرؤساء دول المجموعة الأربع عقد في روسيا عام 2009 حيث تضمن الاعلان الصادر عنه دعوة لتأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية وصولاً إلى التعددية القطبية المؤدية إلى المزيد من دمقرطة العلاقات الدولية والالتزام بقواعد القانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة. علماً أن جنوب إفريقيا قد انضمت إليها عام 2010. ومن المعلوم أن مساحة هذه الدول تشكل 40 مليون كيلو متر مربع أي ربع مساحة اليابسة على الأرض. وأن عدد سكانها يقارب 43% من سكان العالم كما تشكل هذه الدول واحدة من أضخم الأسواق في العالم وأسرع اقتصاداته نمواً.
وفي اجتماع قادة دول البريكس في مدينة ديربان في جنوب إفريقيا عام 2013 صدر عنه قرارات اقتصادية هامة تعالج علاقاتهم البينية وعلاقاتهم بجميع الدول والشعوب الأخرى. كما اتفقوا على إنشاء مؤسسات مالية واقتصادية وإعلامية وأخرى للاتصالات خاصة بهم وذات طبيعة عالمية تساعد على التحرر من سيطرة وتحكم المؤسسات الدولية التي تهيمن عليها الامبريالية الدولية. أما على الصعيد السياسي فقد أعلنت القمة أنها تهدف إلى وضع حد إلى سيطرة دولة واحدة على العالم.
أما فيما يتعلق بالوضع في الشرق الأوسط فقد ورد أن دول البريكس:
-
ترفض عسكرة النزاع في سورية وتدعو إلى حله بالطرق السلمية.
-
تعتبر بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 باطلاً ومخالفاً للقانون الدولي ، ومخلاً بقواعد الشرعية الدولية.
-
تعارض إستخدام القوة ضد إيران وتقر بحقها في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية.
-
تعارض التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
-
تدعو للتعاون مع الأمم المتحدة وعدم تجاوز ميثاقها.
وهكذا يتبين أن الأزمة الاقتصادية العالمية للرأسمالية وما يرافقها من حرب عالمية على الوطن العربي وأمته وخاصة في سورية والعراق وليبيا واليمن تشير إلى أن العالم يقف أمام منعطف تاريخي يعاد فيه توزيع القوة بين أقطاب متعددة ، منها الصاعدة ومنها الآخذة في الهبوط ، يحكمها نظام عالمي جديد في طور التكوين تختفي فيه سيطرة دولة واحدة. وعلى الشعوب المكافحة من أجل الحرية والمساواة وكافة قوى التحرر والتقدم في العالم أن تتوحد لجعل مضمون هذا النظام يستجيب لمصالحها.
أما بالنسبة لكيان المستوطنين الذي ما زال يتشبث بالأساطير القديمة البالية المنافية لروح العصر وبأوهام القرن التاسع عشر الاستعمارية التي تبخرت مع انهيار الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية فإن وظيفته الهيمنية الراهنة لصالح الامبريالية الأمريكية قد تآكلت ، لذلك فإن مكابرة الكيان وإيغاله في الإرهاب والقتل بحق شعبنا وطليعته الشبيبية المنتفضة لن يحقق دوام وجوده لكون المبرر التاريخي لكيفية هذا الوجود الاستعماري قد انتهت ، وأن عليه أن يخلي المكان ،طوعاً أو كرهاً، لكيفية جديدة من الوجود على أرض فلسطين التاريخية الموحدة والمجردة من الفصل والتمييز العنصري وكافة أشكال الامتيازات.
– من تنازل عن وحدة أرض وشعب فلسطين فقد أهليته لقيادة النضال الوطني التحرري لشعبنا
ولما كان تحقيق هذا الهدف الانساني العظيم يصطدم مباشرة بمصالح الثالوث المسيطر، المكون من قوى الهيمنة العالمية وقاعدتها الوظيفية، كيان الفصل العنصري الاستيطاني، وأنظمة الكومبرادور العربي التابعة بنيوياً لقوى الهيمنة العالمية، وحيث انتقلت القيادة الفلسطينية المتنفذة حالياً ونقلت معها المؤسسة الام الجامعة لكل القوى الوطنية الفلسطينية – منظمة التحرير الفلسطينية– الى موقع هذا الثالوث، واصطفت خلف قيادة الولايات المتحدة الامريكية، ووقَعت مع احد مكوناته مغتصب حقوقنا –الكيان الاستيطاني– اتفاقية اذعان استسلامية تخلت بموجبها عن وحدة ارض وسكان فلسطين التاريخية، واقرت بتجزئتها الى معازل عنصرية (اثنية) متعددة أكبرها المعزل الاستيطاني الاستعماري المسيطر على 93% من مساحتها، والمعازل الفلسطينية الفسيفسائية الصغرى المتعددة والمنعزلة عن بعضها البعض لسكان فلسطين الأصليين على مساحة قدرها سبعة في المئة (7%) ، من مساحتها المتبقية منها. وحيث اخرجت هذه القيادة القسم المحتل من فلسطين عام 1948 وسكانها الاصليين العرب من دائرة مفاوضاتها النهائية المعلنة، وأسقطت من مفرداتها السياسية المتداولة علناً ، مطلب تطبيق قرار 194 الدولي الخاص بعودة اللاجئين واستبداله بتعبير مطاط جديد هو: (حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين).
لذلك كله ولغيره من الأسباب المتعددة التي لا يتسع المجال هنا لذكرها، نعلن ان هذه القيادة قد افقدت نفسها أهلية البقاء على رأس العمل الوطني ان لم نقل فيه، الذي هو في جوهره جزء عضوي من حركة التحرر العربي لإنهاء الهيمنة الخارجية وتحقيق الوحدة القومية وتحرير فلسطين من نظام الفصل والتمييز الإثني والإحلال والدور الوظيفي الاقليمي والدولي.
إن التلازم بين حركة التحرر الفلسطيني وحركة التحرر العربي ينبع من تمفصل الحركتين على بعضهما نتيجة تلاحم موقعهما في بنية التناقض القائمة في منطقتنا منذ اتفاقيات سايكس– بيكو خلال الحرب العالمية الأولى على أقل تقدير، حيث قُسمت ثم ألحقت أقاليم الوطن العربي بالهيمنة الإمبريالية، وأصبحت جزءاً بنيوياً من النظام الرأسمالي الطرفي (من الأطراف مقابل المراكز)، وحيث أقامت تلك الدول الكيان الاستيطاني في قلب الوطن العربي كقاعدة لها في مواجهة حركة تحرره ووحدته المستقبلية.
وعلى الرغم من أن التجربة الملموسة خلال نصف قرن من النضال الوطني قد أثبتت أن تاريخ شعبنا المعاصر شكل ملحمة ثورية متواصلة مارس خلالها كل أشكال الكفاح، السلمي منه والمسلح، وقدم التضحيات الجسام رغم عدم تناسب قواه مع قوة نقيضه. إلا أن نفس التجربة قد أثبتت قصر نظر قياداته المتنفذة المتتالية، ليس لكونها لم تحقق انتصاراً على أعدائها وحسب، بل لكونها لم تنجز أي تراكمات في الوعي أو في الممارسة الكفاحية، ولم تورث الأجيال اللاحقة أي تقاليد كفاحية يعتد بها في مواصلة الكفاح الوطني التحرري.
إن القيادة الحالية المتنفذة تثبت كل يوم فشلها وعدم أهليتها الفكرية والعملية في قيادة كفاح شعبنا من أجل إنجاز حل عادل لقضيتنا يلغي جميع الأسباب المولدة للعدوان والتدمير الشامل في بلادنا. ان مصيبة هذه القيادة على شعبنا قد فاقت كل التوقعات فقد احدثت تراجعات الى الوراء في كل الميادين، سواء على صعيد الوحدة الوطنية او على صعيد التحالفات الخارجية، او على صعيد خلق قوة ذاتية، او على صعيد تنظيمي وطني، او خلق نموذج يحتذى به في أي شيء. حقاً انه لنكوص وطني شامل بامتياز.
وبحكم تبعيتها المطلقة للقوى العالمية والاقليمية المعادية لحقوق شعبنا والمهيمنة على مقدرات امتنا العربية، وبحكم انخراطها في الترتيبات السياسية والاقتصادية لصالح تلك القوى، وبحكم تنسيق نشاط اجهزتها الامنية مع قوات الاحتلال تحت اشراف ضباط المخابرات الامريكية، وبحكم انصياعها التام لاملاءات الراعي الامريكي “النزيه جداً!” لعملية السلام الموهومة –ذاتية الحركة!- وبحكم اقتصار ابداعاتها على النشاط البروتوكولي في استقبال وتوديع الزوار وتبادل القبلات الحارة معهم دون تحقيق أي فائدة ملموسة لشعبنا ولقضيته سياسياً ومعاشياً.
نقول بحكم هذا وذاك اصبحت هذه القيادة تشكل عائقاً حقيقياً امام أي تطور او نهوض مستقبلي للقوى الحية في شعبنا التي لم تتلوث ايديها بالفساد المالي والاخلاقي ولم تدنِس سمعتها بالانخراط في التبعية للامبريالية الامريكية الى جانب الكومبرادور العربي، ولم تنغمس في مستنقع المفاوضات الاستسلامية العبثية مع المستوطن المستعمر الجاثم عنوة فوق ارضنا وعلى صدر شعبنا. وبدلاً من ان تكون هذه القيادة عوناً لكفاح شعبنا اصبحت عبئاً ثقيلاً على كاهله ومعيقاً له ينبغى إزالته لتتمكن مسيرتنا التحررية من مواصلة طريقها نحو تحقيق مهامها في تفكيك البنية الاستعمارية الاستيطانية الاحلالية مكان شعبنا والغاء وظيفتها الاقليمية التطويعية التي اصبح نجاحها مرهوناً “مشروطاً” بتجميد التطور العلمي والاقتصادي والتقدم التقني والاجتماعي لدول وشعوب محيطنا العربي والاقليمي، الامر الذي يتعارض مع منطق الحركة والتغير الابدي الذي ينتظم على اساسه الكون الذي نعيش فيه.
ان هذه القيادة التي انطلقت من مصلحتها في تحديد موقعها وبالتالي موقفها، هي اعجز من ان ترى ما يشاهده احرار العالم في هذه الايام من بوادر حقيقية على انحسار حالة الجزر التي شهدتها حركات شعوب اسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية والوسطى في السنوات الاخيرة من القرن المنصرم، كما انها تجهل او تتجاهل – والله اعلم – حقيقة كوننا نعيش ارهاصات جديدة تضعنا على ابواب عالم يتميز بتسارع وتيرات تطوره ويحمل في احشائه تغيًرات مستقبلية عميقة في بنية تركيب القوى العالمية وتوزيعها من جديد بشكل يساعد على تصاعد حالة المد والنهوض لحركات التحرر الوطني والاجتماعي في مراكز وأطراف النظام الرأسمالي المعولم، فالانتصارات المتتالية لشعوب أمريكا الجنوبية والوسطى وإنجابها لأنظمة حكم ثورية تتحدى الهيمنة الأمريكية، إضافة الى نشوء حالة ممانعة ومقاومة في الشرق الاوسط عامة والعربي خاصة التي افشلت المشاريع الأمريكية، هذا الى جانب نهوض متواصل للحركات الاجتماعية وحركات الدفاع عن البيئة ومقاومة عولمة السوق الرأسمالية المتوحشة الغارقة في المضاربة ونتائجها المدمرة على الانسان والطبيعة معاً، والتي انفجرت اخيراً في شكل انهيار النظام المالي العالمي المتهاوي ، ما هي إلاَ تعبيراً عن هذه التغيرات.
اننا نحذر الاحرار والمناضلين من اجل حلول عادلة في فلسطين التاريخية، ومحيطها العربي والاقليمي، من تطبيق شعار (دولتين متجاورتين في فلسطين). فهو من جهة اولى يمثل خديعة كبرى عندما يصور إقامة المعازل الإثنية في فلسطين كتعبير عن تطبيق حق تقرير المصير لسكان هذه المعازل، كما حدث لسكان المعازل السود في جنوب إفريقيا بعد انفصالها الاداري عن الدولة الاستعمارية الأم بريطانيا عام 1910، حيث أنشأ النظام العنصري للمستوطنين الأوروبيين البيض فيها، نظام المعازل لإدارة شؤون سكانها السود، ونصب زعماء قبائل الزولو فيها بصفة ملوك، تحت اشراف وسيادة كيان المستوطنين العنصريين البيض.
ومن جهة ثانية، يمثل انفصال كيان المستوطنين وتميزهم عن السكان الاصليين الفلسطينيين القابعين في المعازل، تكريس لنظام الفصل والتمييز الإثني ( الابارتهايد) والإبقاء على طبيعة البنية الاستعمارية لكيان المستوطنين واستمرار استغلالهم للأرض الموحدة، تحت سيطرتهم، وقوة عمل السكان الفلسطينيين الأصليين فيها.
ويفيد سجل تاريخ الاستعمار الاستيطاني الاوروبي منذ الاكتشافات الجغرافية عام 1492م حتى الان انه لم يحدث ان حلت المشاكل المرتبطة بذلك الاستعمار على اساس تقسيم أراضي الاقاليم المستوطنة، بين سكانها الاصليين والمستوطنين فيها، على شكل كيانات اجتماعية سياسية منفصلة، وان عدم التقسيم هذا شكل قانوناً عاما لكل حالات الاستعمار الاستيطاني التي تموضعت على مساحة قدرها 54 مليون كم مربع كما أشرنا له سابقاً في صفحة 10. وإن جوهر الحلول التي تمخضت عنها جميع تلك الحالات، قد تمحورت حول علاقات المستوطنين بالسكان الأصليين، على تلك الأرض الموحدة، وليست المقسمة وتمظهرت في ثلاث نماذج:
النوذج الأول حيث استطاع المستوطنون الاستعماريون الأوروبيون إبادة السكان الأصليين كما حدث فيما يدعى اليوم بكندا والولايات المتحدة وأستراليا. والنموذج الثاني حيث صمد السكان الأصلييون في أوطانهم وقاوموا بطش وتدمير المستوطنين الاستعماريين وصولاً إلى الاندماج التدريجي والتعايش المشترك معهم كما حصل في بعض أقطار أمريكا الجنوبية والوسطى ومنطقة الكاريبي وجنوب افريقيا مؤخراً. والنموذج الثالث الفاشل حيث عاد المستوطنون الاستعماريون الاوروبيون إلى أوطانهم الأصلية كما خصل في الجزائر وموزمبيق وأنغولا وتونس وأوغندا. أما حالة فلسطين وزيمبابوي فما زالتا تراوحان مكانهما حتى الان دون حسم. إلا أن صمود الشعبين الفلسطيني والزيمبابوي فوق أرضهما ومقاومتهما الشرسة للمستوطنيين الاستعماريين تشير إلا أن النموذج الثاني هو الأكثر واقعية والأقرب إلى التحقيق.
ان قبول القيادة الفلسطينية بتقسيم وطننا وتجزئته الى معازل بغض النظر عن مساحة وعدد سكان كل منها، يشكل شذوذاً عن القانون العام لصيرورة الظواهر الاستيطانية الاستعمارية المماثلة.
ومن جهة ثالثة، يشكل اقامة الدولة الفلسطينية المسخ على جزء من فلسطين التاريخية، بغض النظر عن مساحتها، تثبيتاً لبنية صراع المتناقضات القديمة، كما يؤبد طبيعة الكيان ودوره الوظيفي، ويبقي الاساس الموضوعي لاستمرار التدمير الشامل وعمليات الانتحار الجماعي والنفي المتبادل على ارض فلسطين التاريخية، ومحيطها الاقليمي كما هو عليه.
ان حجر الزاوية في أي حل لقضيتنا الوطنية لا يتمثل في النسب الكمية للأراضي المخصصة لسكان المعازل على الرغم من اهمية ذلك، بل يتمثل اساسا وقبل كل شيء في نوع العلاقات التي ستقام بين سكان فلسطين التاريخية المنزوعة المعازل بعد التحرير.
فمشاكل البشر لا تنبع من وجودهم ككائنات حية مجردة من الزمان والمكان بل من أشكال محددة لكيفية هذا الوجود يرتبط كل منها بنمط من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ينبثق عنها تناقضات تحدد شكل ومضمون المشاكل والصراعات المرافقة.
فمنذ استعمال الانسان للأدوات الحجرية الأولى وانتقاله فيما بعد من نمط حياة القطيع إلى حياة الرعي والتنقل وصولاً إلى حياة الاستقرار والزراعة ، ومن ثم نشوء الملكية الفردية والطبقات الاجتماعية وأول أشكال الدول القائمة على العبودية في الحضارات القديمة الأولى على ضفاف الأنهر في الصين والهند والعراق ومصر وغيرها ، أخذ الانسان يطور أشكال وجوده الاجتماعي متجاوزاً العبودية والإقطاع حتى وصل إلى الرأسمالية ، الذي تجاوز وجودها الآن ما يزيد على خمسمائة عام ، بما فيها مرحلتها الاستعمارية وأحد مخرجاتها الظاهرة الاستعمارية الاستيطانية التي انتشرت في أمريكيا الشمالية والجنوبية وأستراليا وأفريقيا كشكل للتوسع الرأسمالي الإمبريالي ، فجاء تكوين الجماعات الاستيطانية بشكل اصطناعي لتأدية وظيفة لمصطنعيها.
ولما كانت الأقاليم المستوطنة التي بلغت مساحتها ما يقارب 54 مليون كم مربع عامرة بسكانها الأصليين لذلك تعرض غالبية هؤلاء السكان وحضاراتهم للتدمير والاندثار وخاصة في أنماط الإستعمار الإستيطاني الإحلالي كما هو الحال مع الهنود الحمر في شمال أمريكا والأبوريجينيز في أستراليا.
أما في حالات نمط الإستعمار الإستيطاني الإستغلالي حيث قاوم السكان الأصليون وصمدوا في أرضهم فارضين على المستوطنين الاستعمارين وحماتهم حلولاً انتزعوا بموجبها حقوقهم في تقرير المصير والمساواة مع من بقي من المستوطنين البيض على أرضهم بعد تجريدهم من وضعهم الإستعماري المتميز.
ومن أمثلة ذلك جنوب إفريقيا التي تعرضت للإستيطان الأوروبي الإستعماري منذ المنتصف الثاني للقرن السادس عشر حيث تعرض شعبها الأصلي الإفريقي لأبشع أنواع القهر والإستغلال والتدمير والتمييز والفصل العنصري والعيش في معازل بعيداً عن المستوطنين الإستعماريين البيض. إلا أن مقاومة السكان الأفارقة الأصليين وتضحياتهم الجسام بما فيها المقاومة المسلحة بقيادة حزب المؤتمر ، وتأييد شعوب وأحرار العالم لهم ، قد استطاعوا الإطاحة بنظام الفصل العنصري للمستوطنين الإستعماريين وأقاموا على أنقاضه دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها المتساويين في الحقوق المدنية والسياسية.
وهكذا نرى أن الحل المتوصل إليه لم يمس وجود الناس على أرض جنوب إفريقيا بل مس علاقاتهم الغير متساوية بحيث أنهى كل أشكال التمييز والتميز.
أما في الجزائر التي تعرضت للاحتلال والإستعمار الاستيطاني الفرنسي في الثلث الأول من القرن التاسع عشر ، فقد عاني شعبها أبشع أنواع القهر والإستغلال والبطش وإلغاء هويته الوطنية وفرض اللغة الفرنسية على شعبه الذي لم يستكن ولم يمل من الكفاح بجميع أشكاله لمدة مئة وثلاثين عاماً ، وخاصة المسلح منه بقيادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي تفاوضت مع حكومة ديغول في إيفيان لتحقيق الاستقلال عن فرنسا. وتجدر الإشارة هنا أن اتفاقيات إيفيان بين الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير الوطني الجزائرية لم تتضمن ضرورة إخراج المستوطنين الاستعماريين الفرنسيين من الجزائر بل تجريدهم من امتيازاتهم كمستوطنين إستعماريين مع الحفاظ على مساواتهم في الحقوق والواجبات مع بقية المواطنين الجزائريين ، أصحاب البلاد الشرعيين ، في دولة الجزائر الديمقراطية الشعبية. إلا أن المستوطنين الإستعماريين قد أصروا على امتيازاتهم ووضعهم الاستعماري ورفضوا البقاء كمواطنين متساويين لذلك غادروا أرض الجزائر مع القوات العسكرية الفرنسية.
وفي أمريكا الجنوبية التي تعرضت للغزو والإستيطان الاستعماري الإسباني والبرتغالي المبكر منذ الاكتشافات الجغرافية عام 1492، خضعت أرضها وسكانها الأصليين للنهب والإستغلال الفاحش والقتل الممنهج والمعاملة الوحشية من قبل المستوطنين الإستعماريين الأوروبيين الذين ما لبث أن اندمج الكثير من أحفادهم تدريجياً مع السكان الأصليين ، ونشأت فيها حركات اجتماعية وسياسية ضد الظلم والقهر الطبقي الداخلي والسيطرة الإمبريالية الخارجية الأمريكية. ومثال على ذلك الثورات في كوبا وفنزويلا وبوليفيا والأرجنتين وتشيلي وغيرهم ، والتي أخرجت قادة ثوريين عظام من السكان الأصليين مثل تشافيز وموراليس وقادة من أحفاد المستوطنين الأوروبيين مثل كاسترو وجيفارا وإلليندي الذين شكلوا جميعاً تحالفاً ضد هيمنة رأس المال والإمبريالية العالمية.
ولهذا نرى ان المشكلة الفلسطينية لا تنحصر في وجود مهاجرين مستوطنين استعماريين من جهة وسكان أصليين (فلسطينيين) على أرضها التاريخية من جهة اخرى، بل في نوع العلاقة التي اقامها كيان المستوطنين المستعمرين –المنعزل– مع شعبنا.
وزيادة في التوضيح ودفعاً للالتباس نعود ونؤكد أن التغيير الذي نريد تحقيقه على أرض فلسطين التاريخية الموحدة لا يمس وجود الناس الفيزيائي عليها الا بقدر ما يستمر منهم بالتمسك وبالدفاع عن الطبيعة الاستعمارية الاحلالية لوجوده الاستيطاني وما يرتبط بها من امتيازونظام فصل وتمييز ضد الشعب الفلسطيني ومواصلة الارتباط البنيوي بقوى الهيمنة العالمية بهدف تثبيت سيطرتها على المحيطين القومي والاقليمي في بلادنا فلسطين، ومواصلة سياسة التوسع والعدوان.
كما نؤكد ان حركتنا الوطنية التحررية المنتصرة سوف تشكل محاكم لمحاسبة من ارتكب جرائم إبادة ضد شعبنا مع ضمان حقهم في الدفاع القانوني أمام تلك المحاكم وضلك على نمط محكمة جرائم الحرب التي تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية في مدينة نورينبرغ لمحاسبة كبار الضباط والقادة النازيين على جرائمهم بحق الشعوب التي وقعت تحت احتلالهم خلال الحرب العالمية الثانية.
ومن هنا وعلى ضوء فهمنا هذا ننطلق نحو تحديد المضمون الحقيقي لشعار تحرير فلسطين الذي لا يعني في أية حال من الأحوال تحريرها من وجود المستوطنين المهاجرين المقيمين فيها، بل تحريرها من نمط العلاقات الإستعمارية الإثنية الإحلالية التي أقامها هؤلاء المستوطنون الاستعماريون مع شعبنا الفلسطيني، وتحريرها من دور كيانهم الوظيفي على محيطنا القومي والإقليمي.
اننا ندرك ثقل المسؤولية وجسامة العبىء على كاهل حركتنا الوطنية التي يتطلبها تحقيق هذا الهدف الإنساني العظيم في جوهره والشاق في مظهره، وما يستدعيه ذلك من ضرورة حشد كل طاقات شعبنا الكفاحية وتوحيد صفوف كل قواه الحية الصادقة في استعدادها للتضحية والمقاومة، والإرتقاء بها الى مستوى أعلى من الوعي والتنظيم والممارسة ونسج علاقات ديمقراطية ثورية فيما بينها.
– منظمة التحرير الفلسطينية اكتسبت صفتها من هدفها
وعلى الرغم من الملاحظات التي يمكن ان يبديها هذا التنظيم او هذا المفكر او ذاك، على كيفية تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، قبل احتلال الكيان الاستيطاني للضفة والقطاع عام 1967، الا ان ما يميز جوهر ميثاقها هو قرارات مجالسها الوطنية قبل اعلان البرنامج المرحلي، عام 1974، الذي انحرف بالمنظمة عن خط سير الحركة الوطنية الفلسطينية العام منذ عشرينات القرن المنصرم، حيث اتسم جوهر ذلك الميثاق وتلك القرارات بالاسس التالية:
-
الانطلاق من نظرة توحيدية شاملة غير مجزئة لفلسطين التاريخية، ارضاً وسكاناً وحلول سياسية تواصلاً مع مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية منذ بداية العشرينات من القرن العشرين (بغض النظر عن نوعية الحلول التفصيلية ومقترحيها انذاك).
-
الربط المحكم بين اهداف الحركة الوطنية الفلسطينية وآلية عملها وبين الحركة التحررية العربية وآلية عملها، باعتبارهما متلازمتان بحكم تلازم مصالحهما، الامر الذي انعكس بوضوح في مواد الميثاق الوطني للمنظمة وفي قرارات مجالسها الوطنية المتتالية.
-
التأكيد على الدور الطليعي للمنظمة في تحرير فلسطين من مخلفات الاستعمار الاستيطاني الاحلالي باعتبارها اداة كفاحية لشعبنا، نالت منه بموجب ذلك وشرعية وجودها واحقية تمثيلها له.
-
السمة الجامعة للمنظمة من حيث شموليتها لكل قوى شعبنا الوطنية باعتبار المنظمة اطاراً لتحالفها خلال مرحلة التحرير.
-
بعيداً عن الجانب الفقهي سيسيولوجياً وقانونياً لمفهوم المنظمات، فان مصطلح منظمة التحرير الفلسطينية هو على جانب من الوضوح الفكري الذي لا يتطلب معه عناء التحليل لتبيان الترابط الشرطي الغير قابل للانفصام بين ضرورة وجود المنظمة كبنية لعلاقات قوى فلسطينية متمايزة نسبياً من حيث بعض الخصوصيات ومتكاملة من حيث تحقيق هدف مشترك، وجدت المنظمة اصلا من اجله. فوجود المنظمة هنا استدعاه هدف التحرير. وصفة المنظمة هنا مشتقة من هذا الهدف. فإذا انتفى هدف التحرير، أو زال، أو غيب بسبب ما أو استبدل بهدف اخر تزول عندها الصفة المعطاة للمنظمة التي اشتُقت منه، وتصبح عندئذ بدون صفة، إلا إذا حدد لها هدف آخر تقوم بتحقيقه، فعندها تشتق لها صفة جديدة من الهدف الجديد.
وبما ان القيادة استبدلت هدف المنظمة القديم التحريري بهدف جديد تفاوضي وقعت بموجبه اتفاقية إذعان اعترافا بالكيان، مع الابقاء على طبيعته الاستعمارية الاستيطانية الاحلالية، لذلك تصبح المنظمة من زاوية مصلحة ووجهة نظر الشعب الفلسطيني فاقدة لصفتها الاولى. ويترتب على الاطراف الفلسطينية المتفاوضة من اجل الوحدة واصلاح منظمة التحرير ان تركز في مفاوضاتها في الدرجة الاولى على ارجاع هدف التحرير الى صلب ميثاق وعمل المنظمة كشرط للإبقاء على صفتها الأولى.
وبناء على ما تقدم نرى ان منظمة التحرير بميثاقها وبقرارات مجالسها الوطنية السابقة على البرنامج المرحلي وبحصولها على الاعتراف الدولي وبقدرة الوطنيين الشرفاء من شعبنا على اصلاح الخلل الذي اصاب ميثاقها وبانهاء تفرد قيادتها وبتحريرها من الاتفاقيات التي وقعت باسمها، وبارجاعها الى طبيعتها كأداة كفاحية لشعبنا وباعادة تموضعها في حركة التحرر العربي وكصديق لكل المناضلين من اجل حرية الانسان وتقدمه، والدفاع عن سلامة كوكبنا وشروط الحياة عليه.
بهذا كله وبغيره من الاصلاحات الايجابية تستطيع المنظمة ان تكون اطاراً كفاحياً لقوى شعبنا العازمة على دخول مرحلة جديدة من النهوض الذي لن يمر بالتأكيد من خلال مفاوضات توحيدية يديرها من يحاصر شعبنا ويغلق حدوده لتجويعه وقتل مرضانا ولا يمتلك الحق او الجرأة في ادخال جندي واحد الى ارض ادعى انه حررها.
ان نهوض حركتنا الوطنية يمر من خلال التخلص من وهم السلطة وانهاء الصراعات المدمرة من اجل المحاصصة البينية فيها الفارغة من أي مضمون وطني واعتمادها اسلوب المقاومة لإنهاء الاستعمار الاستيطاني الاحلالي في بلادنا.
ان كل فلسطيني وطني وعربي حر يمتلك الوعي العلمي والتجربة الصادقة يتساءل: كيف يوافق الذاهبون للتفاوض من اجل الوحدة الوطنية الفلسطينية تحت رعاية وتوجيهات رئيس مخابرات اول دولة عربية تفاوضت واقامت علاقات سياسية واقتصادية مع الكيان الاستيطاني وهي غارقة في تبعيتها لهيمنة عدونا الاول الامبريالية الامريكية، وتتآمر علناً على قوى الممانعة والمقاومة في منطقتنا؟
ان على القوى الفلسطينية التي تريد التوحد من اجل النهوض بحركتها لتحرير وطنها
من سيطرة المستعمرين المستوطنين وأسيادهم الامبرياليين وتحتاج الى من يساعد في تقريب وجهات نظرها ان تتوجه صوب الذين يتخندقون معها في مواجهة اعدائها، وليس صوب الذين يتخندقون ضدها في مواقع اعدائها. فليس بالصداقة والتبعية لامريكا يتحرر الوطن العربي ويتوحد! بل بمجابهتها وانهاء سيطرتها وتكنيس توابعها.
نعم للوحدة الوطنية في اطار منظمة التحرير بميثاقها القومي والمحررة من اتفاقيات اوسلو وتوابعها وفردنة قيادتها وتبعيتها لقوى الهيمنة وأنظمة الكمبرادور العربي.
عاشت فلسطين محررة من مخلفات الاستعمار الاستيطاني العنصرية، ومبنية على اسس من الحياة المشتركة المتساوية لكل مواطنيها بعيداً عن كل اشكال الفصل والتمييز بسبب الدين او الثقافة او الاصل الاثني. وبعيداً عن العداء لمحيطها القومي و الاقليمي و صديقة لكل قوى التحرر والتقدم في العالم.
1 عملية التحرير متلازمة ومقرونة شرطاً بالكفاح المسلح كأرقى أشكال المقاومة
2 هناك فرق بين الديانة اليهودية والحركة الصهيونية العالمية التي استغلت الديانة اليهودية لتجميع يهود العالم في فلسطين. وهناك فرق بين اليهود الذين استوطنوا فلسطين عبر التاريخ وبين الصهاينة الاستعماريين الذين يشكلون جزءاً من المشروع الاستعماري الاوروبي والامبريالية العالمية. وهذا ما يفسر معارضة حركة تاطوري كارتا لوجود “دولة إسرائيل” لاسباب دينية ومعارضة العديد من الحركات المعارضة لللاحتلال الاسرائيلي للضفة وغزة داخل وخارج فلسطين المحتلة كذلك وجود معارضة لاسرائيل ككيان استعماري استيطاني احلالي في أوساط الأكاديمينن والعلمانيين والناشطين السياسيين.